تُفصِح لنا كلاسيكيات الأدب أخبار التواطؤ والخيانة وحكايات دسّ المكائد المبرمة بحقّ شعوب وأوطان من قبل أصنامٍ عشقوا بريق الذهب وأدمنوا ملمس الحرير الناعم. على طاولات العشاء الفاخر كان يقدّم أجود أنواع التآمر، وكؤوساً كثيرة من النبيذ المعتّق الطيّب، التي لم تنسَ رفع أنخاب الدماء الرخيصة المهدورة حفاظاً على كرسيّ العرش. تخبرنا تلك الأعمال الأدبية عيوب الملوك التي لا يمكن رتقها، ونواياهم الدنيئة المخبوءة، وأحاديثهم الطويلة، المملة والمروّعة، التي لا تتوانى في كل مرّة عن إخبار الضيف قصة صاحب تلك الجمجمة المعلقة، فوق الصواني المذهبة، على الحائط. هكذا سنعثر على فضائح المنزل المقدس، وعلى الأسرار القذرة للعائلة، تلك التي كانوا يتداولونها في غرف القصور الفخمة والمزخرفة، لم يأبهوا للحظة بأن لجدرانها آذاناً لتسمع. تدعونا تلك الروايات والمسرحيات إذاً أن نكون ضيوفاً حاضرين على مائدة أصحاب الجلالة، نشهد عن كثب كيف أن مرارة العيش، أو «مواسم البؤس» التي عانت منها العامّة، كانت نتيجة مقادير زائدة من الخلّ دلقها الملك على «طبق» أحكامه. أدب كهذا يقع على نقيض أدبنا العربي الممعِن، بمجمله، في كيل الثناء والمديح للملك وحاشيته، بأبيات شعر طويلة، مقفّاة وموزونة، تستحضر كل تروس البديع والإطناب حتى ترتخي عضلات وجه صاحب الجلالة، فينال الشاعر، وأبناء قبيلته على الأرجح، الإقامة الذهبية والقليل من التربيت الحارّ على الرقبة. غير أنّ عالمنا العربي يتمتع بكل مقوّمات هذا النوع من الأدب (ما عدا الأديب ربما)، ثم إنّ عناصر هذه الرواية حاضرة، وسياقاتها صالحة زمنياً ولو أننا في القرن الواحد والعشرين، كما أن جميع شخوصها موجودة، بل طازجة، لا تحتاج حتى إلى تسخين. ولنا أبرز مثال على ذلك مع تركي آل شيخ.للروائي ويليام فوكنر قولٌ دائماً ما نردده، ومفاده: «إن الخيال أكثر حقيقةً من الحقيقة نفسها»، لكن مقولة فوكنر تفقد صلاحيتها عندما يكون التوق إلى النزعة الواقعية شديداً، وتضمحل أمام شخصية لا تحتاج إلى روتوش أو ماكياج، أو أي لمسة فنّية. هي حكايةٌ لشخصيةٍ يقودها الخيال أصلاً. هو خيال طفل انغمس في عالم ديرني وأبطاله، وعشق سيمياء اللوحات الإعلانية المصفوفة في ملاعب كرة القدم، وسحرته ضوضاء المدن الكبيرة، وكان مأخوذاً بحلبات الملاكمة والمصارعة الحرّة، وها قد صار شاباً، بلغ اثنين وأربعين من العمر؛ كتب له قدره أن يكون رئيساً لمجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في المملكة العربية السعودية، فأطلق العنان لخياله المسلوب، المستشرق، ليحقق ما كان دائماً يتخيّله. وشأن آل الشيخ في الوصول إلى ما هو عليه شأن الكثير من الأطفال الذين كانوا محطّ اختلاط مع أبناء العائلة المالكة. إذ إنّ اللعب في تلك الصالونات يجعل الترقي في المناصب أشبه بعملية تحويل النقود عبر الويسترن يونيون، سهلاً وسريعاً، ولنا مع أبناء الإقطاع وأصدقائهم، العاجزين عن التفريق بين صيغ المذكر والمؤنث، والذين أصبحوا النخب في بلدنا، خير دليلٍ.

(من حساب: كاريكاتير محبس الجن، على تويتر)

تركي آل شيخ حقيقيّ فإذاً بقدر ما نصائح وشهادات الأنتروبرونير (entrepreneur) على تيد إكس حقيقية. على أنّ حقيقته تنّص على التالي: رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في المملكة العربية السعودية. أي أنه صاحب «النهضة» التي ستصقل المملكة من قحط الصحراء إلى ضوضاء المدن. لكن سبق لأدورنو أن علمنا أن صناعة «الترفيه» هو تحويل الحضارة إلى علكةٍ، مضغها لذيذ، لكن سرعان ما يستنفذ منها السكر، فتلقى بعيداً.
دائماً وأبداً: بنظاراتٍ شمسية والزيّ العربي الأنيق، ووجه ينقسم على نفسه؛ بين ابتسامةٍ ودودة مقابل عبوس يحيل إلى صرامة أكثر من التجهّم، يظهر تركي آل شيخ مخاطباً، أو محاضراً، أو مجاوباً عن أسئلةٍ تطرحها عليه الصحافة، أو نجماً إعلانياً يروّج لمنتجاتٍ تدعم إسرائيل. هو بحالة نطق دائمة، ولو غلبته التأتأة. والشخصية هذه، التي لم تستقبلها الرواية بعد، دُعيت منذ فترةٍ وجيزة إلى إلقاء كلمة في مؤتمرٍ، فانهار لسانها وتلعثمت، أي تداعى القول فغرقت في التأتأة، لكنها قوبلت بالتصفيق الحارّ، وكلما شطّ الصوت زاد التصفيق، وهذا في الرواية يبشّر ببدء الانعطاف الدرامي، ولكنه في الحقيقةِ من شيم الملوك. فالتأتأة هنا، إن لم تتداول بوصفها شكلاً بلاغياً ناجزاً، مقولباً في لغةٍ فصيحةٍ مستقيمة لكن طرأ عليها بعض التشويش، يُحاسَب متلقيها بتهمة الزندقة. قد يُخَفَف حكمه إن اعترف بأنه وقع في فخ الالتباس، أو أنه كان قاصراً في فهمه المعنى، المهم أن يتحمّل ذنب ما اقترفه، ويرفقه باعتذارٍ شديد يبيّن فيه ندمه الكالح. وإذا كانت البلاغة هي إبلاغ وبلاغ، وتستدعي في بعض الأحيان المبالغة، والغرض هو المعنى والقصد هو إيصاله، وقد ذكرنا أبو هلال العسكري في كتابه «كتاب الصناعتين الكتابة والشعر» بأن البلاغة من صفة الحكمة، فتركي آل شيخ هو التجلّي البشريّ لها. ذلك أن تركي هو ذاك الصحافي الذي يكتب في كل الشؤون وخبير في شتّى المجالات: من مسابقة «جمال الكلاب» التي نظمها لتكون الحدث المقام «للمرة الأولى في التاريخ» وصولاً إلى النظريات ما بعد الحداثية. هو شاعر وروائي، كاتب أغانٍ، خبير أمني، ومالكٌ لأندية رياضية، أهمها نادي ألميريا الإسباني لكرة القدم. هو باختصار شخصية/ مثال أو بالأحرى «بطل» المدينة. مدينة «نيوم» التي تقتبس (مع ذكرها للمراجع) مدن العالم، من باريس إلى ميامي، لكنها تفضّل نيويورك، وتطلبها ديليفري. باستثناء مسرح برودواي وما يتماهى معه، من أدب وفنّ وملاهٍ وموضة، فكل ما تبقى من عالم الاستعراض المبهرج، ويخصّ الفرجة و«الترفيه» متوفر في مدينة آل شيخ. حتى مغنّي الراب، إمينيم، الذي حضر إلى موسم الرياض، ستجده هناك. لن نتحدث عن أندرتايكر، المصارع الذي حلّ ضيفَ شرف، وكأي فردٍ من أقرباء العائلة دخل إلى غرف النوم، و«تصارع» مع أولاده.
كأن التواصل بما هو اتصال واحتكاك، تسلم وتسليم، هو النشأة عند هذه الشخصية للرواية التي لم تُكتب، وهو (التواصل) محركها أيضاً. ويبدو أنها البلاغة بشكلها المعاصر، حيث بقدر ما تضخّم المعنى تعذر وصوله، فبقي الإرسال، وهو الصوت المزعج الذي يشبه التأتأة، يطنّ مستبداً. والمعنى هنا ليس إلا إشاعة رديئة، البعض يعرّفه على أنه «حداثة مشوهة». على هذا الحال، تصل مدن جاهزة معلبة. يصل نجومٌ وفنانون ومندوبو التلفزيونات العالمية. كل ما دمغ في مخيال الطفل يوماً يصل إليه ديليفري، وفي المقابل على هذا الطفل الذي كبر أن يرسل رسائل شكر بعد دفعه فاتورة الطلبية. رسائل تلائم أهواء ملّاك مدن البلاستيك التي طلبها، ولكن بالعربية، هكذا تزجه الترجمة هاته في أتون السياسة بشكلها المباشر: «قف مع إسرائيل»... فهناك ثمنٌ لقاء الديليفري أيضاً.
خرج علينا تركي آل شيخ بحملةٍ داعمة لإسرائيل، ليدعم إسرائيل، مروّجاً لماكدونالدز الحريصة على السلامة الغذائية للمقاتلين الصهاينة. بالتزامن مع فيديو ترويجي نشره على مواقع التواصل الاجتماعي - ما لبث أن حذفه - كتب تركي آل شيخ تغريدة حثّ فيها الشعب السعودي على تلبية نداء ماكدونالدز التي خصّصت حسومات وعروضاً على وجبات الطعام. لا غرابة في أن يحب آل شيخ الـ«بيغ ماك» أكثر من كرهه للفلسطينيين. كلاسيكيات الأدب تخبرنا أيضاً سيرة الأطفال المدللين الذين يحطّمون المنزل إذا ما أرادوا الحصول على قطعة حلوى، وكيف يعلّمون أهلهم قواعد الشماتة «بالأقل شأناً»؛ أولئك الذين لا يعرفون مذاق الحلوى إلا لماماً.
إننا أمام بليغ إذاً، اجترح بلاغته من ماكدونالدز وقائمة طعامها، وإذ به يُقدَّم لنا اليوم على أنه نموذج «المدينة» و«روح العصر». ولكنه يتغافل أو يجهل أن الوجبات السريعة مثلها مثل المدن المعلبة الجاهزة، هجينة وهشة وعابرة، لا يتذكرها أحد، حتى من أوصَل الديلفري. يبقى أنّ الفلسطينيين نبّهونا إلى أهمية الهدم قبل البناء، ورفض البناء الجاهز المعلّب، وأن هضم التراب بعد أكله أجدى من تناول وجبات الماكدونالدز. والأهم أن زوال «العصر» قادم لا محالة. هذا ويبقى أن الرواية التي لم تكتب ولن، من المفضل أن تكون جملتها الأولى هي التالية: «على طاولات العشاء الفاخر كان يقدّم أجود أنواع التآمر، وكؤوساً كثيرة من النبيذ المعتّق الطيّب، التي لم تنس رفع أنخاب الدماء الرخيصة المهدورة حفاظاً على كرسيّ العرش».