(من حساب: كاريكاتير محبس الجن، على تويتر)
تركي آل شيخ حقيقيّ فإذاً بقدر ما نصائح وشهادات الأنتروبرونير (entrepreneur) على تيد إكس حقيقية. على أنّ حقيقته تنّص على التالي: رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في المملكة العربية السعودية. أي أنه صاحب «النهضة» التي ستصقل المملكة من قحط الصحراء إلى ضوضاء المدن. لكن سبق لأدورنو أن علمنا أن صناعة «الترفيه» هو تحويل الحضارة إلى علكةٍ، مضغها لذيذ، لكن سرعان ما يستنفذ منها السكر، فتلقى بعيداً.
دائماً وأبداً: بنظاراتٍ شمسية والزيّ العربي الأنيق، ووجه ينقسم على نفسه؛ بين ابتسامةٍ ودودة مقابل عبوس يحيل إلى صرامة أكثر من التجهّم، يظهر تركي آل شيخ مخاطباً، أو محاضراً، أو مجاوباً عن أسئلةٍ تطرحها عليه الصحافة، أو نجماً إعلانياً يروّج لمنتجاتٍ تدعم إسرائيل. هو بحالة نطق دائمة، ولو غلبته التأتأة. والشخصية هذه، التي لم تستقبلها الرواية بعد، دُعيت منذ فترةٍ وجيزة إلى إلقاء كلمة في مؤتمرٍ، فانهار لسانها وتلعثمت، أي تداعى القول فغرقت في التأتأة، لكنها قوبلت بالتصفيق الحارّ، وكلما شطّ الصوت زاد التصفيق، وهذا في الرواية يبشّر ببدء الانعطاف الدرامي، ولكنه في الحقيقةِ من شيم الملوك. فالتأتأة هنا، إن لم تتداول بوصفها شكلاً بلاغياً ناجزاً، مقولباً في لغةٍ فصيحةٍ مستقيمة لكن طرأ عليها بعض التشويش، يُحاسَب متلقيها بتهمة الزندقة. قد يُخَفَف حكمه إن اعترف بأنه وقع في فخ الالتباس، أو أنه كان قاصراً في فهمه المعنى، المهم أن يتحمّل ذنب ما اقترفه، ويرفقه باعتذارٍ شديد يبيّن فيه ندمه الكالح. وإذا كانت البلاغة هي إبلاغ وبلاغ، وتستدعي في بعض الأحيان المبالغة، والغرض هو المعنى والقصد هو إيصاله، وقد ذكرنا أبو هلال العسكري في كتابه «كتاب الصناعتين الكتابة والشعر» بأن البلاغة من صفة الحكمة، فتركي آل شيخ هو التجلّي البشريّ لها. ذلك أن تركي هو ذاك الصحافي الذي يكتب في كل الشؤون وخبير في شتّى المجالات: من مسابقة «جمال الكلاب» التي نظمها لتكون الحدث المقام «للمرة الأولى في التاريخ» وصولاً إلى النظريات ما بعد الحداثية. هو شاعر وروائي، كاتب أغانٍ، خبير أمني، ومالكٌ لأندية رياضية، أهمها نادي ألميريا الإسباني لكرة القدم. هو باختصار شخصية/ مثال أو بالأحرى «بطل» المدينة. مدينة «نيوم» التي تقتبس (مع ذكرها للمراجع) مدن العالم، من باريس إلى ميامي، لكنها تفضّل نيويورك، وتطلبها ديليفري. باستثناء مسرح برودواي وما يتماهى معه، من أدب وفنّ وملاهٍ وموضة، فكل ما تبقى من عالم الاستعراض المبهرج، ويخصّ الفرجة و«الترفيه» متوفر في مدينة آل شيخ. حتى مغنّي الراب، إمينيم، الذي حضر إلى موسم الرياض، ستجده هناك. لن نتحدث عن أندرتايكر، المصارع الذي حلّ ضيفَ شرف، وكأي فردٍ من أقرباء العائلة دخل إلى غرف النوم، و«تصارع» مع أولاده.
كأن التواصل بما هو اتصال واحتكاك، تسلم وتسليم، هو النشأة عند هذه الشخصية للرواية التي لم تُكتب، وهو (التواصل) محركها أيضاً. ويبدو أنها البلاغة بشكلها المعاصر، حيث بقدر ما تضخّم المعنى تعذر وصوله، فبقي الإرسال، وهو الصوت المزعج الذي يشبه التأتأة، يطنّ مستبداً. والمعنى هنا ليس إلا إشاعة رديئة، البعض يعرّفه على أنه «حداثة مشوهة». على هذا الحال، تصل مدن جاهزة معلبة. يصل نجومٌ وفنانون ومندوبو التلفزيونات العالمية. كل ما دمغ في مخيال الطفل يوماً يصل إليه ديليفري، وفي المقابل على هذا الطفل الذي كبر أن يرسل رسائل شكر بعد دفعه فاتورة الطلبية. رسائل تلائم أهواء ملّاك مدن البلاستيك التي طلبها، ولكن بالعربية، هكذا تزجه الترجمة هاته في أتون السياسة بشكلها المباشر: «قف مع إسرائيل»... فهناك ثمنٌ لقاء الديليفري أيضاً.
خرج علينا تركي آل شيخ بحملةٍ داعمة لإسرائيل، ليدعم إسرائيل، مروّجاً لماكدونالدز الحريصة على السلامة الغذائية للمقاتلين الصهاينة. بالتزامن مع فيديو ترويجي نشره على مواقع التواصل الاجتماعي - ما لبث أن حذفه - كتب تركي آل شيخ تغريدة حثّ فيها الشعب السعودي على تلبية نداء ماكدونالدز التي خصّصت حسومات وعروضاً على وجبات الطعام. لا غرابة في أن يحب آل شيخ الـ«بيغ ماك» أكثر من كرهه للفلسطينيين. كلاسيكيات الأدب تخبرنا أيضاً سيرة الأطفال المدللين الذين يحطّمون المنزل إذا ما أرادوا الحصول على قطعة حلوى، وكيف يعلّمون أهلهم قواعد الشماتة «بالأقل شأناً»؛ أولئك الذين لا يعرفون مذاق الحلوى إلا لماماً.
إننا أمام بليغ إذاً، اجترح بلاغته من ماكدونالدز وقائمة طعامها، وإذ به يُقدَّم لنا اليوم على أنه نموذج «المدينة» و«روح العصر». ولكنه يتغافل أو يجهل أن الوجبات السريعة مثلها مثل المدن المعلبة الجاهزة، هجينة وهشة وعابرة، لا يتذكرها أحد، حتى من أوصَل الديلفري. يبقى أنّ الفلسطينيين نبّهونا إلى أهمية الهدم قبل البناء، ورفض البناء الجاهز المعلّب، وأن هضم التراب بعد أكله أجدى من تناول وجبات الماكدونالدز. والأهم أن زوال «العصر» قادم لا محالة. هذا ويبقى أن الرواية التي لم تكتب ولن، من المفضل أن تكون جملتها الأولى هي التالية: «على طاولات العشاء الفاخر كان يقدّم أجود أنواع التآمر، وكؤوساً كثيرة من النبيذ المعتّق الطيّب، التي لم تنس رفع أنخاب الدماء الرخيصة المهدورة حفاظاً على كرسيّ العرش».