كان من المفترض أن تُعرّف هذه المقدّمة بالعدد أو تعقّب عليه كما العادة. كان من المقرّر أن نكتب عن التحديق، بما هو فعل لصيق بوجودنا، يتعدّى كونه نظرةً ثابتةً طويلةً، وخصوصاً في عصر الفرجة والـ«ريلز» والمراقبة الحثيثة التي لا تملّ ولا تضجر. لكن ما كان مقرراً الكتابة عنه مكتوبٌ أصلاً، ومن الأفضل أن يُقرأ من دون تمهيدٍ وتقديم. «تحت التحديق»، وجميعنا أهداف تجذب التحديق وتشدّه نحوها. يأتي التحديق فينا وعلينا من الاتجاهات كافةً، إثر الكثير والكثير من الأعين: من كاميرات الدولة ونواطيرها، ومن جارنا في البناية المطلّة على نافذتنا كذلك. وبدورنا، فإننا نحدّق في كل ما يقع على مرأى أعيننا.
تصميم: هاشم رسلان

يغدو التحديق ممارسةً تبدو للوهلةِ الأولى عادية، غير أنّها لحظة تؤسّس لمعرفتي بذاتي، وتمهّد إمّا لتشييء ذلك الذي أحدّق فيه وإما الترحيب بحضوره. هكذا وانتهى. باقي ما تبقى يُقرأ في داخل العدد. ما يهمنا هنا، هو الخبر الأخير الذي ورد البارحة عن إدراج منظمة اليونيسكو «منقوشة الزعتر» على لائحتها للتراث غير البشري، بناءً على طلبٍ قدمه لبنان.
ما يهمنا هو أن نأخذ من هذا الخبر مناسبةً للتعليق على نظرةٍ ساذجة، غارقة في خيالٍ سياسي رديء، غير قادر على الخروج من نوستالجيا سقيمة. نظرة تحدّق فينا بوصفنا تلك القرية التي ما تزال تحافظ على نقائها وإرثها وعاداتها، ويخطر في بال ساكن المدينة أن يزورها من حينٍ إلى آخر، ليتنعّم بمناخها ويتلمّس طيبة أهلها الأخيار. وما يهمني تحديداً هو أنه أصبح لديّ سبب إضافي لكرهي الزيت غير لزاجته، وطعم التنميل الذي يحسسني به الزيت بمذاقه. وأفاد الخبر العظيم الآتي: «أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) الأربعاء منقوشة الزعتر على لائحتها للتراث غير المادي للبشرية، واصفة إياها بأنها راسخة في الهوية اللبنانية. وقرّرت اللجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي التي تعقُد اجتماعاتها منذ الإثنين في كاساني في شمال بوتسوانا إدراجَ العجينة الشهيرة التي يوضع عليها الزعتر الممزوج بالزيت وتخبز في الفرن أو على «الصاج» ضمن التراث غير المادي للبشرية، بناءً على طلب قدّمه لبنان في مارس 2022. وذكّرت اليونسكو في وصفها المنقوشةَ بأنّها خبز مسطّح يُعدُّ في المنازل والمخابز المتخصّصة، ويستمتع السكان المنحدرون من جميع الخلفيات في لبنان بتناوله في وجبة الفطور. ولاحظت أن صلوات ترافق إعداد العجين التماساً لاختمار العجين، فيقوم المسلمون بتلاوة بداية سورة الفاتحة ويقوم المسيحيون بتلاوة الصلوات والتصليب». مع اليونيسكو باتت «منقوشة الزعتر» رمزاً لبنانياً محضاً، لبنانياً كما يحبّه اللبنانيون، وكما يخبرهم عن لبنانهم كتاب التاريخ الكاذب. بل بات لبنان بأسره مختزلاً في «منقوشة الزعتر». و«منقوشة الزعتر» هذه، تبدو كما تصفها اليونيسكو، مخبوزة ببراعة، حيث عجينتها ممدودة وصلبة، لا يهددها التفتت ولا التمزيق، بل إنها ساحرة وشهية، وليست كما يُقال بلغة العجين «مرفوخة»، أيّ محشوّة بتناقضاتٍ وجيوب هواءٍ من الممكن أن «تفقع» بأي وقت. وهذا يعني أنّ مذاق «منقوشة الزعتر» يُعيد تذكير الآكل بلبنان: بروعة الطبيعة، ولحظات الهدوء عند الفطور، وبرائحة المنازل العتيقة، وبالصلاة والطوائف والأديان. وهذا المذاق خالٍ من طعم صدأ الرصاص، ومرارة الدم، وحموضة الخطف على الحواجز، وهو يزداد طيبة كلما تعرضت عجينة «منقوشة الزعتر» للنار، لأعلى درجات حرارة الفرن؛ عندما تتخطى المنقوشة اللون الأحمر وتبلغ التحميص. هذا ما رأته منظمة يونيسكو في «منقوشة الزعتر»، المعلَم السياحي الجديد من دون أن ترى أن «منقوشة الزعتر» هي ما هي عليه، لأنها الطعام بأكثر أشكاله بداءة، فهي وجبة نيئة عابرة لطبقية الفمّ تستطيع إشباع خواء أيّ معدة.
قد ينتبه مختصّ بالطعام، ممن أصبحوا نجوماً لهذا العصر، هؤلاء الذين يحصدون الملايين من المشاهدات جرّاء تذوقهم الطعام وحكمهم عليه، أنّ تلاوة بداية سورة الفاتحة عند المسلمين وتلاوة الصلوات والتصليب عند المسيحيين بينما تحضّر العجينة وتُعدّ، لهو إفراط في المكنونات، ما يهدد سلامة المنقوشة ومن الممكن أن يخلّ فيها. وهذا برسم المعنيين. أما كاتب هذه السطور، فكلما سمع بـ«منقوشة الزعتر» تذكر ميثاق الجماعات، والحروب الأهلية، وصورة القرية التي يتجنّبها. أتذكر شعور «الحرقة» التي تصيب المعدة. الفطور، قلتَ؟ أختار التدخين، متقبلاً كامل أضراره.