كل مدن العالم تحوّلت هذه الليلة إلى مدينةٍ واحدة تغفر للجميع. مثلما تغسل الأمطار شوارع المدينة باستطاعة الثلوج محو الآثام، هكذا يظنون. الليلة، لا تُرمى قشور الموز من النافذة، بل تخرج اليد من النافذة وتقرع الأجراس. والأرصفة كلّها بيضاء، إن لم يكسُها الثلج، فأسنان الوجوه الضاحكة كفيلة بذلك. الضاحكون كثرٌ، والآخرون منهمكون بقضم نتفٍ من جبلٍ لونه أصفر باهت، شكله دائريّ ويباع بالقليل. يتذوّقون تلك القطعة الصغيرة، ثم يبتسمون، ثم يثرثرون، ثم يهزّون رؤوسهم عندما يخبرهم مسؤول المبيعات عن تاريخ العفنة المتخثّرة في قالب الجبنة. لقد شابت المتاجر بسرعة رغم أن الكثير منها قد افتُتح مؤخراً. جميع المتاجر نبتت لحيتها، باتت تضع نظاراتٍ طبيّة، صارت تنطق، تقول: «ميري كريسماس». الزبائن بدورهم يردون التحية ثم يخرجون ضاحكين، ومعهم أكياسٌ... كيف يمكن لهذه الأكياس أن تحمل كل هذا الفرح؟ كيف لها ألّا تتمزق؟ غالباً ما يكون الفرح الذي تدفع ثمنه خفيفاً.

تصميم: فرانسوا الدويهي

كريسماس المُحتفل فيه في كل عام لا يخرج من المغارة إنما من المتاجر. إلهه ليس غريم تجّار الهيكل إنما عجوزٌ سمينٌ يضع نظاراتٍ وله لحيةٌ، يأتي من القطب الشمالي مرة واحدة في السنة بعد منتصف الليل. انتظاره هو انتظار المكافأة، وفي حضوره نشوء للملكية الخاصة. كريسماس هو احتفاء بقدوم هذا الرجل، وليس بميلاد صاحب تلك الدعوة الملحّة: «في المحبة خلاص العالم». خَبَت هذه الكلمات إثر الإنارة المبهرجة المحضّرة لاستقبال سانتا كلوز. في عالمٍ يبدو الخلاص فيه أمنية مستحيلة، باتت المحبة كالسجل العدلي المفقود في الدوائر الرسمية. صارت تحتاج إلى كلام كثير، وبراهين منطقية، ثم إمضاء رسمي، وفي كريسماس هدية. لم تعد تلك الدعوة جذابة لأن دربها درب آلامٍ على الأرجح، وتلك الدروب يصرف النظر عنها كونها بعيدة عن ساحة الاحتفال. ثمة معادلات جديدة رسّخها كريسماس: صارت المحبة تخضع لشروطٍ، شكّلت المحبة من جديد، حتى تحوّلت بدورها إلى شرطٍ للهدية. هذا بند أوّلي هنا. هذا دستور المدينة الواحدة. هذا إنجيل سانتا كلوز: إنّ المحبة فإذاً، مثل الهدية، مشروطة ومقيّدة وتخضع لجردة حسابات، أما الصفح والمغفرة، فغداً سيذوب الثلج. أما بعد، فما الذي سيجلبه لنا سانتا كلوز في هذا العام؟ لكي تحصل على هديتك عليك أن تتجاوز الامتحان، حسناً: هل كنتَ مطيعاً هذه السنة؟ هل أطبقت فمك على جرائم إسرائيل؟ هل وعدت أهلك أنك لن تتعاطف مع «الحيوانات»؟ هل قرأتَ قصص سي.إن.إن وبي.بي.سي قبل النوم؟ هل حفظت الدرس جيّداً؟ هل أدنتَ حماس؟
النار على وشك الانطفاء، المدخنة بحاجة إلى قليل من الحطب، لا بأس، هناك كثير من الأجساد الجاهزة للاشتعال. كل مدن العالم تحوّلت هذه الليلة إلى مدينة واحدة تغفر للجميع باستثناء مدينةٍ واحدة تحوّلت إلى مقبرة. مدينة واحدة لن تغفر ما دامت حربها مع تاجر الهيكل الملتحي، الذي يضع نظاراتٍ طبية مستمرة. من مقرّه في القطب الشمالي، يحضر سانتا كلوز القنابل والصواريخ كهدايا، ويجلس على كرسيّه الهزّاز مشرفاً على إبادة الأطفال الفقراء. عوضاً عن تساقط الثلوج، تسقط الأبنية والمنازل والأرواح، لكن بياض غزّة ولو كان نتيجة الحطام والغبار والركام، هو لون بزوغ العالم، ميلاده، وليس نهايته. هي مدينة واحدة لا تشبه مدن العالم بشيء. سكانها يحبونها كثيراً، لا يبيعونها بثلاثين من فضة، ولا يتركونها رغم تعرّضها للصلب كل يوم. كلّما اتّسع جرح المدينة زاد الحب (الأليم) تجاهها، فالمحبة هاته من دون شرطٍ، مجانية، وبلا قيدٍ. من قُتل بغفلةٍ، على مضض، موته هو مدّ اليد حتى ينعم غيره بالحياة. الأحياء يولدون من تلك الأيادي. تلك الأيادي المرسومة أدناه، موتها قربان المدينة، تلك الأيادي التي تحفر الأنفاق، وتضرب القذائف، وتحمل الأشلاء، هي كما نرى، تُحيل إلى القيامة مهما طالت الحرب وعلا صياح الديك.
(تلك الأيادي موتها ليس فناءً بل قيامة، وفي هذه المناسبة ميلادٌ) ستقتل سانتا كلوز حتماً، لا مفرّ من ذلك.