نشرت جريدة إيكونومست استطلاع رأي حديث نشرته في ديسمبر الماضي («يعتقد واحد من كل خمسة شباب أميركيين أنّ الهولوكست أسطورة»، 7ديسمبر 2023) كانت نتيجته صادمة، إذ ظهر أنّ «الإيمان» بالهولوكست يشهد تراجعاً كبيراً في أوساط الشباب الأميركيين الذين شاركوا في الاستطلاع. فـ20% من المشاركين الذين تراوح أعمارهم بين 18و29 عاماً اعتقدوا أن المحرقة مجرد أسطورة، فيما 30% آخرون قالوا إنهم غير متأكدين من كون المحرقة حقيقة أم أسطورة تروّجها وسائل الإعلام، لأنهم يعتقدون أنّ اليهود يتمتعون بقدر كبير من السلطة والسيطرة على وسائل الإعلام واللوبيات السياسية في أميركا. مستطلعو الرأي في الجريدة لم يصدّقوا النتائج. حاولوا أن يفهموا الأسباب التي تدفع الشباب الأميركيين إلى التشكيك في الهولوكست وعدم تصديق حدوثها. وبينما شكّكت إيكونومست في المستوى التعليمي عند المشاركين، تبيّن معهم أن معظم الشباب الذين شاركوا في الاستطلاع أصحاب مستوى تعليمي عالٍ. لكن القاسم المشترك بين هؤلاء الشباب أنّ 32% يأخذون معلوماتهم عن الأحداث التاريخية عبر تطبيق تيك توك، وكانت تلك مفاجأة لم ننتظرها قطّ من هذا التطبيق. بعد الاطّلاع على هذا التقرير يتساءل أحدنا: هل كان المؤسّس ديفيد بن غوريون ليتخيل أن يطعن تيك توك في احتكار إسرائيل لهذه المحرقة؟

بورتريه للمثل الهنغاري بيلا لوغوزي على شكل دراكولا، أليساندرو لوناتي

غالباً ما ردّد بن غوريون في منشوراته ولقاءاته أنّ «الدولة اليهودية هي وريثة الستة ملايين الذين راحوا ضحية المحرقة. هي فقط الوريث الوحيد لها، لو ما قُتل هؤلاء، لجاءت غالبيتهم إلى إسرائيل». تكمن الخطوة الأهم للحركة الصهيونية منذ إعلان تأسيس دولتها المزعومة في استثمارها بمأساة الهولوكست لتكوين ما يمكن تسميته بمصطلح عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو بـ«رأس مال ثقافي». نجحت إسرائيل في تكوين هذا الرأسمال حتى بات رصيدها ضخماً، فرأسمالها الثقافي هذا لا يزال يضفي شرعية على وجودها، وينجح في مهمته في تأثيره على كثيرين حتى هذه اللحظة. لم تكن لتترسّخ مأساة الهولوكست كما روّجت لها إسرائيل لولا الدور الكبير الذي لعبته السينما. وجب علينا التذكّر أن الآباء المؤسّسين أمثال بن غوريون لم يهتموا للمحرقة كثيراً. فالأخير كان يصلي لحدوثها، حتى أنه كتب في مذكراته عام 1942 بعد أن بدأت أخبار المحرقة تنتشر في العالم: «المأساة قوة، إن استُخدمت في اتجاه مُنتجٍ. إن جوهر الإستراتيجية الصهيونية هو معرفتها كيف تحوّل نكبتها لا لمصدر بؤس وشللٍ كما فعل الشتات، بل كعين ماء تنضح إبداعاً وطاقة».
بعد الفيلم الهوليودي «الخروج» لمخرجه أوتو بريمنغر عام 1960، وبطله الممثل الأشهر آنذاك بول نيومان، انطلقت موجة من الأفلام المأساوية التي تحاكي الهولوكست وتتحدث عنها. حاز الفيلم المذكور جائزة أوسكار، أعقبها سيل من التبرعات التي تدفقت على إسرائيل من الدول الغربية بسبب قصة الفيلم التي تحكي إقامة الدولة الإسرائيلية عبر سفينة تنقل اللاجئين الهاربين من عذاب الهولوكست، ولكي تكتمل البطولة يزعم الفيلم أن البريطانيين رفضوا إدخال السفينة إلى فلسطين. منذ ذلك الحين انتبهت إسرائيل إلى أهمية السينما، وارتأوا الاستثمار بالمحرقة، ذلك أنه باستثمار سرديتها وباستغلالها ضمانة لنجاح مشروعهم السياسيّ. على إثر ذلك، فقد أنتج الكثير من الأفلام الهوليودية والأوروبية التي أخذت من الهولوكست موضوعها وثيمتها، وعن ضحاياها الرئيسيين، بل الوحيدين، أي اليهود، وكأن لا ضحايا للهولوكست غيرهم. على مدار العقود التالية وحتى يومنا هذا، لا يشذ فيلم عن القاعدة، ولا نقاش أو تصوير لأي من الضحايا الآخرين الذين قضوا في المحرقة. كان أشهر تلك الأفلام «قائمة شندلر» (ستيفن سبيلبرغ، 1993) و «عازف البيانو» (رومان بولانسكي، 2002)، إذ أسهمت هذه الصناعة السينمائية في ترسيخ السردية الإسرائيلية في الوعي الجمعي الغربي، ومهّدت لفكرة إسرائيل على أنها وطن قومي لليهود المضطهدين. وحتى في الوطن العربي، تجد أن مشهد أدريان برودي في فيلم «عازف البيانو» يثير دموع الكثيرين أكثر مما تحركهم مشاهد القتل في أي دولة من دول العالم الثالث مثلاً. على الأرجح لا يعرف الكثيرون أن ضحايا الهولوكست لم يكونوا وحدهم من اليهود، ولو أن أكثرية الضحايا منهم كما تقول الأرقام، وتأريخ هذه المسألة يحتاج إلى مساحة أخرى.
تُعدّ المدة بين حربيّ 1967 و1973 ذروة استدعاء إسرائيل لذكرى المحرقة وتوظيف سرديتها بغية كسب الشرعية لدولتها المزعومة. أطلقت إسرائيل آنذاك عدداً من الاستعارات كربطها حصار إسرائيل في المحيط العربي بحصار اليهود من النازيين، أو خطر الإبادة الذي يحوم حول دولة إسرائيل واليهود وغيرها لإثارة التعاطف وللتوظيف السياسي من أجل إضفاء شرعية ومعنى على وجودها. ففي أثناء حرب 1967، التي تعرف بالنكسة، استدعى ساسة إسرائيل ذكرى الهولوكست، والخطاب الذي يفيد أن اليهود مهددين بإبادة أخرى، ما جعل شوارع نيويورك تمتلئ لحصد التبرعات ليهود إسرائيل، في الوقت الذي كانت إسرائيل قد هزمت ثلاثة دول عربية واحتلت من أراضيهم ما يفوق حجم فلسطين بثلاثة أو أربعة مرات. يؤكد الكاتب الأميركي اليهودي نورمان فينكلشتاين في كتابه «صناعة الهولوكست» هذا الكلام. ففي المدة التي تراوح بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الستينيات، لم تكن سيرة الهولوكست تتردد كثيراً في أوساط الأميركيين أو اليهود الأميركيين خاصةً. وكان هناك مقرر دراسي واحد في الجامعة في الولايات المتحدة حول هذا الموضوع، حتى أن الفيلسوفة حنا آرنت حين نشرت كتابها «آيخمان في القدس» عام 1963 لم تعتمد سوى على بحثين فقط كُتبا بالإنجليزية عن موضوع المحرقة في تلك المدة. أما بعد ترويج المأساة، فإن الطلبة في أميركا يستطيعون أن يعرفوا على وجه التحديد زمن حدوث الهولوكست وعدد ضحاياها اليهود أكثر من تاريخ حربهم الأهلية وضحاياها، أو الهجوم على ميناء بيرل هاربور والقنبلة الذرية التي ألقيت على اليابان.
تسيطر إسرائيل على رواية الهولوكست سيطرة مُحكمة إلى درجة أنها تستطيع على الأرجح إعادة كتابة تاريخ هذا الحدث من جديد إذا استطاعت. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسبعين عاماً، أي في عام 2015، كان حدث الهولوكست بوصفه تدبيراً نازياً مترسخاً تماماً في الوعي الغربيّ. والسردية الهولوكستية تبدأ منذ صعود النازية في ثلاثينيات القرن العشرين، ومانيفستو هتلر الشهير ضد اليهود إلى حين أن قرر بنيامين نتن ياهو في ذروة الحرب على فلسطين، وبعد أن أعادت الكثير من الدول الأوروبية النظر في شرعية دولة إسرائيل ومواقفها في حق الفلسطينيين، أن يستعيد مأساة المحرقة بضرب من ضروب الهذيان حينما صرح بأن الحاج أمين الحسيني هو الذي نصح هتلر بـ«الحل النهائي» («نتنياهو يفجر جدلاً بتصريحاته عن مفتي القدس الراحل»، وكالة رويترز) أي التخلص من اليهود عبر قتلهم وإعدامهم في غرف الغاز والأفران، بينما هتلر لم يكن ينوي أكثر من طردهم فقط من أوروبا التي يسيطر عليها آنذاك. إنّ ذلك الاحتكار للمأساة وإعادة سردها مرة تلو الأخرى بصور مختلفة، لم يدع سوى هوامش معتمة للرؤية بأن هناك ضحايا آخرون غير اليهود كعرب ومسلمين كانوا جزءاً منها.
في مواجهة السردية القوية لتهويد الهولوكوست وحصرها بالضحايا اليهود واستثمارها سياسياً لمصلحة إسرائيل، حضرت بعض الأبحاث التي لم تلقَ رواجاً كبيراً في الأكاديميا الغربية، مثل بحث غرهرد هِب الذي تُرجم تحت عنوان «العرب في المحرقة النازية: ضحايا منسيون؟» (صدر سنة 1983، ترجمه محمد جديد بإشراف زياد منى). وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، قامت الكاتبة الأميركية إينا فريدمان بنشر كتابها «الضحايا الآخرون: قصص إعدام النازيين لمن هم من غير اليهود»، ذكرت فيه أن خمسة ملايين إنسان من غير اليهود يتوزعون بين أصحاب البشرة السوداء ومثليي الجنس وغجر الروما في ألمانيا، وبعض الطوائف المسيحية في فرنسا وتشيكوسلوفاكيا آنذاك، كانوا من ضحايا الهولوكست والسياسات العنصرية النازية. كان إسهام إينا الذي لم يكتب له الانتشار الواسع المهم، ولكنه رمى حجراً في المياه الراكدة، إذ إنّ قضية غجر الروما واضطهاد المثليين أصبحت حاضرة في أذهان الغربيين إلى جانب مأساة اليهود في الهولوكست، لأسباب تتعلق بأجندة الليبرالية في تصعيد النضال الهوياتي على حساب النضال الطبقي بعد سقوط المعسكر الشيوعي.
منذ اندلاع «طوفان الأقصى» وقد غرقت من جديد التصريحات الإسرائيلية والأميركية كما التغطية الصحفية بالاستعارات والإحالات للهولوكست، وأعادوا استدعاء ذكراها وأسقطوها على السياق الإسرائيلي الذي يواجه خطر «إبادة ثانية». جاء ذلك تجاوباً مع دعوة ياد فاشيم، المركز المتخصص بأبحاث الهولوكست، إذ دعا القيمين عليه إلى «رفع الوعي حول تاريخ معاداة السامية والمحرقة»، فانبرت التقارير والتغطيات الإعلامية لتصوير الحياة في الداخل الإسرائيلي في سياق الحرب، وقد خرجت من منصات إعلامية مثل DW الألمانية أو ARTE الفرنسية حيث استدعوا بعض الناجين من الهولوكست الذين يعيشون الآن في إسرائيل و«ينتظرون هولوكستاً آخر» وكيف يتعاطون مع هذا الخوف. ورغم كل تلك الجهود الحثيثة لاستخدام فزاعة المحرقة، يبدو أن أخلاقية الدولة اليهودية المزعومة لا تزال آخذة في التراجع، وشرعيتها في المجتمع الدولي تتراجع كذلك. ربما لم تعد الهولوكست المتعلّقة باليهود لا ترعب أحداً، بقدر ما يُرعب العالم. فهناك هولوكست معاصرة تُرتكب في حق الفلسطينيين يومياً. دائماً ما تواجه إسرائيل خوفاً من أن تستخدم المحرقة بشكلٍ معاكس، وهذا ما حدث في عام 1982، حينما كان الرئيس الأميركي روناد ريغان يشاهد أحداث صبرا وشاتيلا على التلفاز - وهو ليس بريئاً منها بحال من الأحوال - وقد صرّح لأحد معاونيه: «هذا جنون، على أحد ما أن يُوقف تلك المذبحة!». من سخرية القدر كان ردّ هذا المعاون الذي قال له: «سيدي أنت الوحيد الذي في إمكانه أن يُوقف تلك المذبحة!». وما إن سمع ريغان ذلك الجواب، حتى اتصل بمناحم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، وقال له: «أوقفوا ما تفعلونه في لبنان، إنكم ترتكبون محرقة». وحين امتعض بيغن جراء استخدام ريغان لتلك المفردة (المحرقة)، متحفظاً على استعمالها، صفعه ريغان مرة أخرى: «بل بالفعل إنكم ترتكبون محرقة وعليكم أن توقفوها الآن».
تتعاظم الخشية من جرّ إسرائيل إلى محاكم العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية التي وجّهتها إليها دولة جنوب أفريقيا، كما أنها تخشى من أصحاب الرأي الرافضين لها، هؤلاء الذين يحتشدون في مدن الدول الغربية التي دائماً ما كانت حاضنة لجرائم دولة إسرائيل، فـ«رأس المال الثقافي» الوحيد الذي يشرعن وجود «دولة قومية لليهود» في عالم يدعو إلى العلمنة والعولمة والتقدم والحرية أصبح بدوره مهدداً بالسقوط!