ويبقى السؤال إذا كانت الرأسمالية تتطوّر بشكل استقطابي أو بشكل متجانس، سؤالاً سياسيّاً بالدرجة الأولى. هو طرح ذو بعد عالمي يتعلق بحركة رأس المال على صعيد الكوكب، وبموقع الجماعات والطبقات المختلفة وتعبيراتها السياسية والفكرية من هذه الحركة. كان هذا السؤال مطروحاً بشأن دور البرجوازية التقدّمي من عدمه في المرحلة الإمبريالية، وبشأن تأثير دخول الرأسمالية في المرحلة الإمبريالية على الأجنحة المختلفة للاشتراكية الدولية في أوروبا (ولاحقاً في البلدان المتخلّفة)، والفالق التاريخي الذي أحدثه هذا الدخول. منذ بدايات القرن العشرين، كان المفهوم البلشفي عن التطور اللامتكافئ، وما كتبته روزا لوكسمبورغ عن حاجة الرأسمالية إلى طرف ثالث في المعادلة التجارية، أي سوق عالمية زبائنها خارج حدود الدولة الرأسمالية المنتجة للبضائع، وفي أنماط اجتماعية قبل رأسمالية، تجد جذورها في الكلاسيكيات الماركسية عبر الحديث عن دور التجارة العالمية في تطور الرأسمالية، وخاصة في ما كتبه ماركس عن فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر (الثامن عشر من برومير والصراعات الطبقية في فرنسا).
أخذت مقولة التطور اللامتكافئ أبعاداً متعدّدة في الكتابات الاقتصادية الماركسية اللاحقة عن التخلّف، تلك التي ارتبطت باسم مجلّة (مونثلي ريفيو) الأميركية وبأسماء أعلام مثل بول باران، بول سويزي، هاري ما جدوف، سمير أمين وغيرهم. ومن هنا انبثق التنظير الماركسي عن التخلّف والتبعية في مرحلة استقلال المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية، في أن للمنظومة الرأسمالية مركزاً محدّداً في البلدان الرأسمالية المتطورة كالولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان، وأنّ لها أطرافاً متخلّفة تحكمها برجوازيات تابعة (كومبرادورية) للمراكز. بينما كانت الدول الاشتراكية تقع في تصنيف وسط بين هذين التصنيفين (العالم الثاني).
ولا يصح بمقتضى هذا التنظير الحديث عن برجوازية بمفهوم مجرد، أي لا يصح أن نساوي بين برجوازيات الأطراف وبرجوازيات المراكز المسيطرة، إذ لا يوجد تكافؤ لجهة الدور أو درجة التطور، إنما تكون برجوازيات الأطراف تابعة للمركز، ومعها البلد بأسره. تعيد التبعية إنتاج التخلف الاقتصادي-الاجتماعي وتكون عقبة حقيقية في سبيل تصنيع وتنمية هذه البلدان، وهذا هو لبّ التطور اللامتكافئ. فالنمو والتماسك والتجانس الاقتصادي، القطاعي والعام، لاقتصادات المركز (اقتصاد متطور يرفد بعضه بعضاً)، يقابله بالضرورة تخلف وتخلع البنى الاقتصادية لدول الأطراف، حيث تكون القطاعات المختلفة مفصولة بعضها عن بعض، ويرتبط أكثرها تطوراً (القطاعات الاستخراجية مثلاً) بشكل مباشر باقتصادات المركز، بينما تبقى باقي القطاعات في حالة ركود مديد وحالة تشوّه. هذا فضلاً عن الضعف الموجود في بنية الدولة الخارجة (شكلاً) من الحالة الكولونيالية، لجهة حدودها السياسية، أي التقسيم السياسي المتعمّد لهذه الدول بطريقة تجعلها قاصرة عن تشكيل دول قومية متكاملة في أغلب الحالات. والمفارقة، أن الرأسمالية هنا تنمو (على صعيد قوى الإنتاج بالدرجة الأولى) في مراكزها، وفي الوقت نفسه تغرق في التخلّف، في هوامشها، عبر هذه العلاقة العكسية، بين المركز والأطراف، حيث يتعمق الاستقطاب. وهذا ما يفسر قدرة دول المركز على تجاوز الأزمات الاقتصادية، وهو ما يفسّر أيضاً، ركود الصراع الاجتماعي فيها، وقدرتها على تحييد الفكر البديل للرأسمالية، وجعلها موضع قبول عند عموم الطبقات الأخرى في مجتمعاتها، خصوصاً بعد تفكك الاشتراكية السوفياتية، وانفراد الولايات المتحدة الأميركية بقيادة العالم.
ويبقى موقف إدوارد برنشتاين، أحد زعماء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني (1850-1932)، من مسألة التوسع الرأسمالي عبر الكولونيالية أكثر تعبيراً في هذا الصدد. رفض برنشتاين بدايات القرن العشرين إدانة الكولونيالية، ووجد أنّها ضرورة تقدمية، سواء للبلد الرأسمالي، الذي هو ألمانيا، حيث إن بعض السلع الواردة من المستعمرات تشكل حاجة غير قابلة للاستغناء عنها للصناعة الألمانية الناهضة، أو بالنسبة إلى المستعمرات، التي ستساهم الرأسمالية فيها عبر الدور الكولونيالي في تطوير وتمدين (المتوحشين)، جازماً هنا بدور الرأسمالية التقدمي بالنسبة إلى المستعمرات، من خلال حركة نموها بالذات (الاشتراكية الإمبريالية).
لا تصح المساواة بين برجوازيات الأطراف وبرجوازيات المراكز المسيطرة، إذ لا يوجد تكافؤ في الدور ودرجة التطور بل تكون برجوازيات الأطراف تابعة للمركز ومعها البلد بأسره


إضافة إلى ذلك كان الصوت المؤيد للكولونيالية غالباً لدى أحزاب أوروبا الغربية في مؤتمر الأممية الثانية للأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في شتوتغارت عام 1907. كان هذا الموقف مناقضاً للتنظير اللينيني حول التطور غير المتكافئ على صعيد العالم، وما سيرتبط به لاحقاً في فهم الرأسمالية كمركز وأطراف ملحقة، يتطوّر فيها التخلّف بالتطوّر المطّرد للمراكز. إلى جانب النزعة القومية المرتبطة بمصالح البرجوازية الألمانية، يبرز في رأي برنشتاين رهانٌ على تقدّمية الرأسمالية ودورها العامل على التطوّر في مستعمراتها المتخلّفة. وهو ما يشابه في الجوهر، رأياً لاحقاً بعد نحو قرن، للمفكر السوري الراحل صادق جلال العظم. فقد رأى العظم أن الرأسمالية في حقبة العولمة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتسيّد القطب الواحد، سوف تبادر إلى تصنيع أطرافها المتخلفة، وأن السلوك الاستغلالي المتبع في التجارة والعسكرة سيتعدّل إلى ضم البلدان المتخلفة في حركة نموّ الرأسمالية. في هذين الرّأيين، ومع الفارق الزّمني واختلاف السياقات السياسية، يُسمع لحن واحد يُكَرر فيه أن الرأسمالية تلعب، أو ستلعب، دوراً تقدّميّاً في المستعمرات، أو ذاتها، دول الأطراف المتخلّفة المستقلّة في المرحلة اللاحقة. هذا التأكيد جزء أساسي من العدة النظرية للكثير من الأحزاب بمختلف الاتجاهات والتنويعات الليبرالية، أو هو معدّل قليلاً في تنظيرات بعض الأحزاب الشيوعية التي تنظر إلى النمو الرأسمالي على أنه أقرب للتجانس منه إلى الاستقطاب، وترفض تماماً مقولة المركز والأطراف (الاشتراكيون الثوريون في مصر مثالاً)، بما يمكن تلخيصه أن على الرأسمالية أن تعمّ الكوكب، كحالة الأواني المستطرقة، حتى يُنضج تطوّر قوى الإنتاج، الذي ستضطلع به، شروط الانتقال الاشتراكي. ولكن استفحال التفاوت بين دول الشمال (المركز) ودول الجنوب (الأطراف)، عما كان عليه نهاية القرن العشرين، ناهيك عن بدايته، وفشل برجوازية الدولة المتخلّفة على جميع الأصعدة، يسائل بقوة مؤيّدي مقولة النمو المتجانس والاشتراكية الإمبريالية.