هي أقرب إلى «مطالعة قضائية» بالتواريخ والوثائق والأسماء لمسار امتدّ بعد وفاة الرسول محمد إلى نهاية العهد المملوكي، توثّق لكل الاضطهاد الذي تعرّض له المسيحيون العرب على يد السلطة السياسية، التي حكمتهم باسم الدين وباسم المصالح فذهبوا ضحيتها ولا يزالون. في زمن استعار العصبيات الدينية والمذهبية والعرقية، التي تجاوزت خطوطها الحمر، في السنوات العشرين الأخيرة في الفضاء العربي والإسلامي، يأتي المؤرخ اللبناني أنطوان ضومط، أستاذ التاريخ العربي والإسلامي في العصور الوسطى وصاحب المؤلفات العديدة، ليحاول في كتابه الجديد «المسيحيون المشرقيون ودول الخلافة الإسلامية: جدلية السلطة والدين» (دار سائر المشرق) أن يرسم حدوداً بين النص والتطبيق في علاقة السلطة الإسلامية مع المسيحيين في المشرق العربي عبر العصور، وصولاً إلى نهاية العهد المملوكي. يفرز المؤلف بين فسطاط النص القرآني والنموذج النبوي وبين فساطيط ما كان لاحقاً في الدول الإسلامية التي تلت.

وتبدو ملحّة مثل هذه الدراسات والأبحاث في ظل «الاجتهادات» غير اللائذة بالنص القرآني والمصادر الأساسية التي تغرف من القراءة العمياء للتاريخ الإسلامي وبعض نماذجه المشوّهة التي بدت على فصام وتضاد مع التجربة القرآنية وتطبيقاتها في عهد الرسول العربي. ومثل هذا التبيان هو نتيجة «جهود حثيثة» ـــ كما يقول ضومط ــ لدراسة «المفاعيل الدينية في ممارسات السلطة السياسية وتأثيرهما على أوضاع المسيحيين في الدول الإسلامية» وكيف استُبدل مصطلح «أهل الكتاب» مثلاً، بـ «أهل الذمة» الذي لم يرد ذكره أبداً في القرآن.
يبدو الفصل الأول من الكتاب، المؤلف من سبعة فصول، كما لو أنّه خلاصة العلاقة بين السلطة الإسلامية والمسيحيين على مدى تاريخهم ودولهم. يعود الباحث إلى المصدر الأول للتطبيق النبوي حول المجتمع وهو «عهد الصحيفة» الذي أطلقه النبي في المدينة المنورة وعرف لاحقاً بدستور المدينة. لعل أهم ما في بنوده الـ 47 أنه اعتمد مصطلح «الأمة» بدلاً من النظام القبلي ولم يحصر تعريف المؤمنين بالمسلمين، وإنما اشتمل كل من «يؤمن بالله واليوم الآخر» من مهاجرين وأنصار ويهود يثرب. وعهد الصحيفة هو أول تنظيم سياسي اجتماعي ديني مكتوب، نصّ على أنّ كل المؤمنين أمة واحدة «بعضهم مولى بعض» أي إنّه أرسى المساواة التامة بينهم.
لكن نكث اليهود بعهودهم جعلهم خارج المجتمع الجديد الذي تحول إلى «إسلامي صرف»، مع أنّ النبي ــ بعد انفكاك هذا العهد مع اليهود ـــ لم يحاول أن يستبدلهم بالمسيحيين كجزء من الأمة، فقد عمل على منع التعدي على المسيحيين بكتب أكد فيها حمايتهم والبقاء على هويتهم الدينية، إذ «لا إكراه في الدين». ومن أبرز هذه الكتب عهد الرسول لمسيحيي نجران، وعهده إلى كل المسيحيين اللذين كتبهما بيده علي بن أبي طالب وفيهما حماية كاملة لهم ولدينهم.
يتوقف ضومط عند التحول في الموقف من المسيحيين عندما أصبح المسلمون لاحقاً قوةً كبيرةً، فتحولت السلطة إلى تيوقراطية لا تعتد بالمسيحيين، فكانت بداية مسار ضد المسيحيين يناقض العهود التي منحها الرسول لهم. ومن أبرز الأمثلة على ذلك تعامل المسلمين السلبي مع المسيحيين في عهد الفتوحات في زمني أبي بكر وعمر بن الخطاب. ورأى الباحث أن السلطة في العهد العباسي، فشلت في إرساء العدالة بين مكونات المجتمع عندما تحولت إلى دينية في المظهر وزمنية في التطبيق العملي، فكان المسيحيون ضحية لمحاولات السلطة ترغيبهم أو ترهيبهم لدخول الإسلام. ولم يختلف الأمر في العهدين الفاطمي والمملوكي، ولا سيما الأخير لجهة تغلّب الزمني على الديني وتهميش الديني وإفراغه من أي مضمون قد يكون محرّكاً لتطوير المجتمع والسياسات، بل أيضاً إرهاق المماليك للمسلمين أنفسهم بالانتهاكات، فكيف بغير المسلمين؟
في الفصل الثاني، يعرض الباحث بداية المسيحية في المشرق العربي بدءاً من العام سبعين للميلاد، ومن ثم انتشارها في العراق وبلاد الشام مع المناذرة والغساسنة، وتحول الحيرة في جنوب العراق إلى مركز ديني مسيحي مهمّ أطل على الجزيرة العربية منذ بداية القرن الخامس. وفي اليمن كان انتشار المسيحية مع القرن الثالث بعدما عانى مسيحيو فلسطين من الاضطهاد الروماني، كما استُجلب مسيحيّو الحبشة للعمل كرقيق في اليمن والجزيرة. حتى يثرب (المدينة المنورة) نفسها كان فيها مع بدايات الإسلام، أسقف وثلاث كنائس على ما يروي المؤرخون. كذلك، انتشرت المسيحية في مصر مع بدايات المسيحية رغم الاضطهاد الروماني، بل كان عدد المسيحيين في القرن الحادي عشر فيها يفوق عدد المسلمين. ويكتب ضومط أنّ الفاتحين المسلمين عاملوا المسيحيين في مصر بالحسنى، خلا بعض الفترات في المرحلة العباسية والفاطمية. لكنه يلاحظ أنه كلما انتصر المسلمون في معركة، كانوا يتشددون ضد المسيحيين استشعاراً بفائض القوة المستجد عندهم. كذلك، يلاحظ أن المسيحيين عموماً عاشوا في المدن الإسلامية في أحياء خاصة بهم تخوفاً من تعديات السكان. وكان التعرض الأكبر للاضطهاد في لبنان على يد السلطات المملوكية. كذلك تتبع الباحث نشوء الكنائس في المشرق العربي.
وفي الفصل الثالث، يتوقف المؤرخ أنطوان ضومط عند بداية عهد الذمة لدى المسيحيين. يرى أنّ ما عاناه المسيحيون بعد العهد النبوي، تحول إلى تشريعات رسمية تتعارض مع ما جاء به الرسول من عهود للمسيحيين ولا سيما في نجران. ويقول الباحث إن مصطلح «أهل الذمة» لم يرد أبداً في القرآن الذي يطلق على المسيحيين واليهود مصطلح «أهل الكتاب». أما مصطلح الذمة، فيعني في المعاجم العربية المعاهد المسيحي على روحه وسلامته مقابل دفع الجزية، فيما لا يوجد أي فرق آخر بينه وبين المسلم في كل شيء آخر سواء في السلوك أو المظاهر الاجتماعية. لكنّ المسيحيين تعرضوا لتطبيق ما عرف بالشروط العمرية (العمرين ابن الخطاب وابن عبد العزيز) وكلها تفرض عدداً كبيراً من المحظورات على المسيحيين ومنها على سبيل المثال حظر بناء الكنائس ومنع إظهار الصلبان علناً وارتداء لباس خاص بالذمي، وأن يفسحوا في الطريق أمام المسلم. ويفصّل الباحث مطولاً في ما يطلق عليه «اضطهاد وإذلال» عمر بن الخطاب للمسيحيين في المجالات والسلوكيات كافة التي تتنافى مع ما عُرف عنه من صلاح وعدل بين الناس. يقول الباحث إنه مع أنّ هذه التعليمات كانت تتغير مع تعاقب العصور (عهد معاوية وابنه يزيد استثناء على حسن التعامل مع المسيحيين)، فإنها كانت تضعف اللحمة الاجتماعية. كما كان عزل الموظفين المسيحيين القلائل في بعض المناصب التقنية مثل الترجمة والإدارة إسقاطاً لنظرية المساواة بين أبناء المجتمع. بطبيعة الحال، هذا لا يلغي مواقف مشرفة لبعض العلماء مثل كتاب الإمام الأوزاعي للخليفة أبي جعفر المنصور الذي يدين المعاملة السيئة للمسيحيين بعد ثورة المنيطرة «المسيحية» في عام 759 ميلادية. ويقول الباحث إن من تربّع على عرش اضطهاد المسيحيين كان الخليفة المتوكل (846-861) الذي كان اضطهاده لهم مخيفاً. ويعطي الباحث علامة جيدة للفاطميين الذين تميز عهدهم إجمالاً بمنح الطمأنينة وحرية العبادة للمسيحيين، كما تم توزير بعضهم في عهد العزيز بالله وغيره. وعلى الرغم من التعامل التمييزي أحياناً ضد المسيحيين، فإنّ العهد الفاطمي ـــ قياساً إلى العهود الإسلامية الأخرى ــ يعتبر «من أسلس العهود في التعامل مع المسيحيين» وفق ضومط.
مصطلح «أهل الذمة» لم يرد أبداً في القرآن الذي يطلق على المسيحيين واليهود مصطلح «أهل الكتاب»


يفرد الباحث الفصل الرابع للحديث عن وضع المسيحيين في ظل الدولة المملوكية. يقول إن المسيحيين حينها عانوا تهميشاً كاملاً وازدادت درجة العداء الإسلامي لهم. يرى الباحث إن من ضمن الأسباب هو الدور الذي لعبه الصليبيون في إزكاء الشعور الديني الذي تلطّوا خلفه لتبرير غزواتهم الصليبية والمجازر التي ارتكبوها بحق المسلمين ومنها مجزرة القدس عام 1099. كما أن العديد من المسيحيين قدموا المساعدات للصليبيين ولا سيما في المناطق الساحلية. كذلك، قدموا المساعدات للمغول الذي جاؤوا، معتقدين أنّهم سيكونون خليفة الدول الإسلامية في المشرق العربي.
يخوض الباحث سجالاً حاداً وجاداً ومطولاً مع فقهاء وعلماء مسلمين وعلمائهم أمثال ابن تيمية، وتقي الدين السبكي، وضياء الدين ابن الأخوة وابن قيم الجوزية، في العهد المملوكي حول تعارض ممارساتهم واضطهاداتهم للمسيحيين مع أحكام القرآن والسيرة النبوية والعهود التي قطعت للمسيحيين. يقول ضومط في مكان آخر: «تحول العداء لغير المسلمين إلى ثقافة اجتماعية شبه عامة»، ويرى «أن الإذعان عدو الإيمان» والتطرّف لا ينتج سوى التحجّر الفكري.
في الفصل الخامس، يواصل الباحث الكلام على العهد المملوكي وكيف انتشرت فيه عهود الذمة الأكثر سوءاً ضد المسيحيين. يعرض بالتفصيل عدداً كبيراً من الوقائع الخاصة بهذا الشأن وكلها «تمت من دون مبرر شرعي». لكنّ كل ذلك لم يلغ في بعض الحالات توزير مسيحيين أو توليهم وظائف عليا جمعوا من ورائها أموالاً طائلة حسدهم المسلمون عليها وعملوا على الانتقام منهم وفتح الباب أمام مصادرة السلطات المملوكية لأموال وممتلكات الكثير منهم.
وفي الفصل السادس، نعثر على أغرب تمييز من قبل المماليك بين المسيحيين المشرقيين والمسيحيين من التجار الأوروبيين، إذ «حلّل» المماليك لهؤلاء التجار ما حرّموه على المسيحيين في بلادهم، فأعفي تجّار البندقية مثلاً من الجزية وسمح لهم بالإقامة في الفنادق وتشييد كنيسة ومنح السلطان المملوكي قنصل البندقية راتباً شهرياً. واعتبر ضومط أن هذه الاستثناءات تؤكد على تجاوز حدود الشرع، كما تفهمه الدولة تجاه المسيحيين، كرمى للتجار الأجانب.
وفي الفصل السابع والأخير، تطرّق الباحث إلى العلاقات الاجتماعية الشعبية المباشرة بين المسلمين والمسيحيين التي استطاع فيها المسيحيون التحلل من رقابة السلطة وممارسة أنماط الحياة، ولا سيما الأعياد الدينية مثل الميلاد والفصح، ومهنها بحرية تحت ما يمكن تسميته حالياً «نقابات المهن الحرة».
يخلص المؤرخ أنطوان ضومط إلى أن التطبيق الكيفي لعهد الذمة كان له أثر كبير في الخطاب المسيحي الذي لم يكن قادراً على التعبير عن نفسه. والسبب أنّ السلطة السياسية الإسلامية تفلّتت من الأحكام الدينية المنظمة للعلاقات مع المسيحيين. وقال إنّ ممارسات الحكام أساءت إلى الإسلام أكثر من دفاعهم عنه، وتفوق الزمني على الديني وانتهى «حلم المجتمع الأفضل». وقال إن العصور الوسطى احتوت على القليل من الإيمان والكثير من الظلام. وهذه الثابتة استمرت برأي المؤرخ في العالم العربي المعاصر وما «داعش» إلا تعبير صارخ عنها. وفي النهاية فإن الحاكم المستبد الملتحف بالدين لا هوية دينية ولا سياسية له. كذلك رجل الدين المتشدد الذي يتماهى مع القديم رُعباً من الحداثة.
الكتاب، باختصار، ليس فقط محاولة لتبيان علاقة السلطة بالمسيحيين، بل قراءة عقلانية في مسار التاريخ الإسلامي نفسه والصراعات بين مراكز القوى والعصبيات المذهبية والحركات الاجتماعية. وأهمية الكتاب أيضاً في دقته التوثيقية وفي العبر التي يفترض أن تستخلص من كل هذه العلاقة بين السلطة والمسيحيين، كما الأقليات الدينية والمذهبية الأخرى، من أجل محاولة بناء مجتمع يتساوى فيه الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو حتى السياسية. لقد فرش المؤرخ أنطوان ضومط في كتابه الجاد مائدةً دسمةً لما كانت عليه العلاقة بين السلطة و«الآخر» المسيحي. يبقى أن يتقدم «أولي الأمر» لوضع المدماك الصلب في بناء عمارة الحداثة مستفيدين من كل التاريخ ودروسه ومن تجارب الآخرين في العالم من دون خوف على ضياع الهوية والدين.