إنها بلدة الذهب الأبيض. هكذا يعرّف أهل أنفة (قضاء الكورة) عنها. عند الحديث عن الذهب الأبيض، قد تتبادر إلى الأذهان مناجم الذهب أو ما شابه. لكن في الحقيقة، يرتبط التعبير بشهرة البلدة اللبنانية الشمالية بإنتاج مئات الأطنان من الملح عبر ملّاحات يعود عمرها إلى أكثر من مئة عام. من هذا المنطلق، اختتم أخيراً معرض MedArtSal الدولي الثاني (تنظمه جمعية التجارة العادلة في لبنان Fair Trade Lebanon بالشراكة مع «رابطة تنمية القدرات») فعاليته بزيارة لاكتشاف هذه الصناعة البارزة. تزامن النشاط، مع انطلاق الموسم السياحي لصيف 2023، وإدراج اسم أنفة على لائحة المدن السياحية. يمكن للزائر التعرّف بسهولة إلى الملّاح حافظ جريج من خلال ثيابه البحرية، لكن الحديث معه يظهر عشقه للبحر وإنتاج الملح. يصف حافظ الذي بات يعتبر أحد أقدم الملاحين في المنطقة، في حديثه لنا هذه المهنة بأنّها «أجمل المهن التي يمكن توارثها عبر الأجيال». يملك جريج ثقافة واسعة في صناعة الملح: «تنتج أنفة الملح منذ العصر الفينيقي وصولاً إلى اليوم. إنّه أجمل استثمار لأنّه يجمع بين الطاقة الشمسية وطاقة الهواء والبحر. المهنة جميلة وشاقة. أمارسها منذ أن كان عمري لا يتجاوز الخمسة أعوام، وورثتها عن والدتي، وهي تجلب لي السعادة».
استحالت ملّاحات أنفة أماكن مثيرة للاهتمام. فهي لا تزال تعتمد في صناعة الملح على الطرق التقليدية، من بينها استعمال الرفش اليدوي، الأمر الذي بات نادراً نوعاً ما، في ظل التطوّر التقني والتكنولوجي الذي دخل في الصناعات.
رغم غنى أنفة بالخيرات، تواجه صناعة الملح فيها تحديات كبيرة بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلاد، إلى جانب ابتعاد أهلها عن هذه المهنة التي تتطلّب جهداً كبيراً، بينما تحقق أرباحاً متواضعة. مع العلم أن جودة الملح في أنفة تنافس أهم الأنواع على صعيد العالم. هكذا، صار المجال مع الوقت يقتصر على كبار السن، وسط هجرة أبناء البلدة إلى الخارج بحثاً عن لقمة العيش.
من يجول في أنفة، يكتشف أنّ صناعة الملح ليست وحدها التي أكسبتها شهرتها، إذ تمتزج فيها المعالم الأثرية العائدة إلى آلاف السنين. لذلك، يمكن استغلال زيارة البلدة لاكتشاف «دير سيّدة الناطور» الأثري المطل على البحر وقد شُيّد قبل نحو 1000 عام.
بعيداً عن كل ذلك، ذاع صيت أنفة التي باتت تغصّ بالموتيلات وبيوت الضيافة خلال السنوات الماضية، لتشبَّه بجزيرة سانتوريني اليونانية الشهيرة، في إشارة إلى إطلالة شاطئها «تحت الريح» المباشرة على البحر بشكل هندسي جميل، بينما الشاليهات والمطاعم التي تحويها ملوّنة بالأبيض والأزرق. كل هذه العوامل تجتمع في أنفة، لتكرسّها محطة ثابتة على جدول كلّ زائر يتوق إلى شعور بالسكينة والمتعة والاستجمام.