«يتغيّر جوهر التأمل في اللحظة التي يُضمَّن فيها في جسد الرواية. أما خارج الرواية، فسنجد أنفسنا في مملكة اليقينيات: كُلُّنا، سواء كنّا فلاسفة أو سياسيين أو بوّابي عمارات ـ فإننا واثقون مما نقوله. أما الرواية، على أي حال، فهي الإقليم الذي لا يُسمح فيه لأحد بصناعة اليقينيات، بل هي إقليم اللَّعب والافتراضات»*: ليس فن الرواية قبل ميلان كونديرا (1929-2023) كما بعده، شأنه شأن تلك الشخصيات الفذّة التي تشكل نقطة مفصلية في تاريخ الأدب والفن والثقافة: نيتشه في الفلسفة، وبودلير في الشعر، وموزار في الموسيقى، ويمكن بسهولة لمريدي صاحب «كتاب الضحك والنسيان» أن يضيفوا: وكونديرا في الرواية، من دون أن يُتّهموا بالشطط أو المبالغة.
في باريس عام 1975 (أ ف ب)

منذ ظهور رائعته «كائن لا تحتمل خفّته» (1984)، حول ربيع براغ المجهَض، بات الكاتب، المنتقل طوعاً إلى منفاه الفرنسي منذ عام 1975، أحد أكثر الكُتاب متابعة وتأثيراً في جهات الأرض الأربع، إذ كان كونديرا من قلّة قليلة استطاعت مزج السخرية والفكاهة المرّة في مواجهة اليأس والبؤس والعبث، وتخليص فنّ السرد بعنف من كل ما هو غير جوهري «من أجل الإمساك بتعقيد الوجود في العالم الحديث ممن دون أن نخسر نصاعة معماره الحيّ». الشاب الذي درس السينما في أكاديمية فنون الأداء في براغ، ونشأ في بيت موسيقيّ طبع الكثير من رواياته في ما بعد بملاحظات تأملية عميقة حول الموسيقى، بدأ حياته الأدبية شاعراً بمجموعات شعريّة ثلاث صدرت في براغ في خمسينيات القرن الماضي، إلا أنّ نتاجه الفعليّ - كما صرّح في مقدمة طبعة «البلياد» الشهيرة، بدأ مع مجموعته القصصية «غراميات مرحة» (1958) التي ضمّنها سبعة فصول يمكن لكلّ فصل فيها أن يحيا بذاته، وبعمله الروائي الأول «المزحة»... تلك الرواية التي امتزج فيها الثأر الجنسيّ بالدعابة السياسية المرّة في وجه آلة القمع والرقابة السياسية، فضلاً عن التنظير الموسيقي على لسان إحدى شخصياتها. رواية لم تكتف بأن تورّط شخصياتها الرئيسة في اللعب في المحظور بين الفكاهة والجدّ، بل كانت فاتحة المواجهة مع السلطات في بلاده منذ صدورها عام 1967، واستقبالها بحماسة كبيرة في باريس في بداية الموسم الأدبي عام 1968، بعد أيام قليلة من اجتياح الدبابات لشوارع براغ، ما دفع بالشاعر الشيوعي لوي أراغون إلى كتابة مقدّمة مطوّلة في مقدّمة الرواية المترجمة رفضاً للتدخل العسكري.
الحفر في أساسات بنية الأنظمة الشمولية استمرّ في عمل كونديرا الثالث «الحياة في مكان آخر» (1973) الذي ظهر فيه مفهوم كونديرا حول الكيتش، والشعارات الجوفاء التي يمكن أن تستدرج شاعراً رومنسياً إلى أن يكون أداة صغيرة في أداة القمع الكبيرة، إذ كان هذا العمل بمثابة القطيعة مع الغنائية والشاعر الذي كانه كونديرا عند انتسابه إلى الحزب في الثامنة عشرة من عمره. في العمل الرابع والكبير «كتاب الضحك والنسيان» (1979)، تبدّت كل موهبة كونديرا الفذّة في خلق الطباق وتعدّد الأصوات (بوليفونيا) في قلب السرد من خلال 14 فصلاً إيروتيكياً في حياة رجل تقف عند الحدّ الفاصل بين المعنى واللامعنى، ويمزج فيها بين حكاية مشوّقة عن طالبتين في بلاده، ورواية لسيرة ذاتية ومقال نقدي عن كتاب للحركة النسوية، إضافة إلى أقصوصة شعبية تتحدث عن الملاك والشيطان، وسرد يتعلّق بحلم عن الشاعر الفرنسي بول إيلوار وهو يَعبُر سماء براغ، بحيث لا يمكن لأي عنصر من هذه العناصر أن يوجد بمعزل عن العناصر الأخرى التي تصب كلّها في خدمة سؤال فلسفي مركزي: «ما هو الملاك؟». ويختمها بتأملات استفزازية وفكاهية حول الموسيقى والوباء، وتنويعات على كلمات تأسيسية مثل الضحك والنسيان، القوة والضعف، والثقل والخفّة، والروح والجسد وغيرها. تنويعات «هي الحد الذي تفقد وراءه الأشياء معناها، تنكشف حياتنا في المنطقة المجاورة لهذا الحد ونخاطر بعبوره في كل لحظة».
الهارب من سلطة المعسكر الاشتراكي رفض تصنيفه في أي معسكر أو خانة أو دمغة على المقلب الآخر


شكّل عام 1979 محطّة مفصلية في حياة كونديرا، إذ سُحبت منه الجنسية التشيكوسلوفاكية وحُظِّرت أعماله في طول البلاد وعرضها، وانتقل من منفاه في مدينة رين الفرنسية التي استقر فيها مع زوجته فيرا عام 1975، إلى باريس ليغدو أستاذاً في الأدب المقارن في المعهد العالي للعلوم الاجتماعية، ويحضّر لرائعته الأشهر على الإطلاق «كائن لا تحتمل خفّته» (1984). عمل جعل من صاحبه أيقونةً عالميةً وصاحب مدرسة واضحة المعالم في توحيد السرد والأحلام والتأمل الفلسفي والوجودي في موسيقى واحدة، وإتقانها لتقنيات الحذف والتكثيف لتجعل من الرواية إضاءةً للوجود والذهاب مباشرة إلى قلب الأشياء: «هل يستحق الإنسان أن يعيش على هذه الأرض؟ هل ينبغي لأحدنا أن يُحرِّر هذا الكوكب من براثن الإنسان؟ كان طموح حياتي أنْ أُوحِّدَ بين أكثر الأسئلة جِدية بأكثر الأشكال خِفةً. وليس هذا طموحاً فنياً بحتاً. إنّ التوليف بين الشكل العابث والموضوع الجاد، سيُميط اللثام فوراً عن حقيقة أحلامنا، تلك التي تظهر في النوم والأخرى التي نَلعبُها على مسرح التاريخ، وعن تفاهتها الفظيعة. نحن نُجرب الخِفة التي لا تُحتَمل لوجودنا». النجاح العالمي للرواية أدّى إلى انتقالها إلى السينما عبر فيلم من إخراج فيليب كوفمان وبطولة جولييت بينوش، إلا أنّ الفيلم لم يرق لكونديرا على عكس «المزحة» من إخراج ياروميل جيريش (1969) الذي أثنى عليه الكاتب في مناسبات عدة. «الخلود» (1990) كانت آخر أعمال كونديرا المكتوبة باللغة التشيكية الأم، رغم وقوع أحداثها في باريس، إلا أن انتقال الشخصيات من أسماء العلم السلافية إلى الفرنسية لم يمنع كونديرا من مزج ثيمة الحب بالكانيبالية وارتباك الأمعاء وغيرها في قصة تتناول سلفادور دالي وعشيقته غالا!
من بعدها ظهرت آخر أعمال كونديرا بالفرنسية مثل «البطء» (1995)، و«الهوية» (1998)، و«الجهل» (2003) والعمل الروائي الأخير «حفلة التفاهة» (2014)، مضافة إلى ثلاثية ظهرت في أوقات متباعدة («الوصايا المغدورة»/ 1993 و«الستار»/ 2005 و«لقاء»/ 2009) دافع فيها عن فن الرواية ووضعه في مصاف أرقى الإبداعات الأدبية وقدّم مرافعة تاريخية وأدبية نيابة عنه في وجه مناوئيه والمقلّلين من شأنه. كما أن الهارب من سلطة المعسكر الاشتراكي رفض تصنيفه في أي معسكر أو خانة أو دمغة على المقلب الآخر، بل أراد أن يكون روائياً فحسب: «أن يكون المرء روائياً شكّل بالنسبة إليّ، أكثر من ممارسة أي نوع أدبي آخر، موقفاً وحكمة وموقعاً اجتماعياً. موقع يستبعد كل تماثل مع السياسة والدين والإيديولوجيا والأخلاق والجماعة». لم يترك كونديرا وصيةً أدبيةً أخيرة لمريديه الكثر على شاكلة «نصيحة إلى روائي شاب»، إلا أنه يمكن للسائرين على خطاه مثل مواطنه إيفان كليما، أن يتابعوا الحفر في خواء هذا العالم، في الخط الفاصل بين الثقل والخفة: «لقد أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد ممكناً قلب هذا العالم رأساً على عقب، أو قولبته، أو منعه من المضيّ قدماً في بؤسه. كانت ثمة مقاومة يتيمة: ألا نأخذه على محمل الجد».

* المراجع: مقابلة لكونديرا مع كريستيان سالمون، موقع الجمل، ترجمة عز الدين محمد زين