لا تستوي الطريق بين جبيل وحجولا. حالما يصل المتجه نحو جرد جبيل إلى مدخل محمية بنتاعل، حتى تتراجع نوعية الطريق. الإسفلت يبدو حديثاً والشارع الواسع مخططاً بإشارات السير والسلامة العامة. إنّما بدءاً من بنتاعل صعوداً باتجاه حجولا، فالطريق يذكر بالإنماء اللامتوازن. أودية وأحراج وقرى مترامية بكثافة سكانية واستثمار عمراني متدنيين. إنّه الريف الذي لم تلوّثه المدنية، لكن أهملته الدولة حتى نزح أو هاجر معظم أبنائه. حتى إنّ احتواء حجولا على إرث عمره مئة مليون سنة، لم يشفع لها في التنمية الريفية والاستثمار السياحي.على ارتفاع نحو ألف متر عن سطح البحر، لا يكسر هدأة السكون في ساحة حجولا، سوى طرقات إزميل حسين إبراهيم على الصخور في المقلع الذي يستثمره. بأدوات الهدم والتفتيت، يتنقل بين الصخور مع طفله علي (6 سنوات). بتروٍّ، يطرق على الأحجار ليتكهّن ما في داخلها من خلال صوتها. مراراً، يطرق على زواياها حتى ينفلق الحجر ويكشف الكنز الذي يخبئه. أنواع أسماك متحجرة منذ نحو 100 مليون سنة التصقت بالعوامل الطبيعية في الأحجار، لكنّها لم تفقد شكلها برغم مرور الزمن. «المتعة استثنائية بأن تحظى بفرصة إيجاد كائن داخل حجر ما وتكون أول من اكتشفه منذ عشرات ملايين السنين»، يقول. حجولا بحسب المراجع العلمية، تعدّ أبرز موقع في لبنان يضم المتحجرات التي تكوّنت بعدما هطلت الأمطار بغزارة محمّلة بكائنات مجهرية، على بحر التيتيس الذي كان يغطي غالبية الكرة الأرضية. شكّلت الأمطار على سطح البحر طبقة من العوالق السامة التي قتلت الأسماك التي كانت تحيا في التيتيس. بعد موتها، نزلت الأسماك إلى قعر البحر بسرعة، لكنّها لم تتحلّل وبقيت محفوظة بعد طمرها في الترسبات في القعر. وبعدما ارتفعت جبال لبنان بفعل زلزال قوي قبل 40 مليون سنة، ارتفعت معها المتحجرات من القعر إلى السطح، وتمركزت في منطقة جبيل، ولا سيّما حجولا والنمورة وحاقل وساحل علما.
بحسب إبراهيم، تعد حجولا الأغنى بين جاراتها لناحية كمية ونوعية المتحجرات. «أحصينا نحو ألف و100 نوع. وحفظنا 450 نوعاً، منها القريدس والقرش ونجمة البحر والسلطعون والسلاحف والأخطبوط ونيماطونوطس ووكودس وسيكلوباتيز. وتكمن أهمية بعض المكتشفات بأنّها انقرضت حالياً». ورث إبراهيم الهواية التي تحوّلت إلى مهنة، من والده. في القرية، لم تتلقف الأجيال اللاحقة المهنة التي اعتاش منها الأجداد في القرن الماضي. «حتى سنوات خلت، كان اكتشاف المتحجرات وبيعها، يوفر مردوداً مالياً جيداً. إذ كنا نبيع القطع للسياح والزوار. أما القطع النادرة، فنقدمها للجامعات والمتاحف ومراكز الأبحاث»، يشير إبراهيم الذي كان في السابق يدير ورشة تضمّ 15 عاملاً. لكن بعد الأزمة الاقتصادية، انصرف العمال وتقلّص حجم العمل: «صارت المتحجرات من الكماليات التي لا تجد لها سوقاً للتصريف بعد تراجع القدرة الشرائية». مع ذلك، يسعى إبراهيم لاستثمار ثروة متحجّرات حجولا، ليس لتحسين ظروفه الخاصة فقط، بل لتحسين أحوال قريته وأهلها. في السابق، حضرت بعثات أجنبية عدّة للتنقيب والاستكشاف. لكن حالياً لا دكان في القرية لشراء ربطة خبز حتى، ولا خدمات حيوية ولا بيوت ضيافة. يقرّ إبراهيم بأنّ المهتمين يحتاجون لبنى تحتية متكاملة. يخطّط لإنشاء متحف يجمع فيه المكتشفات «بهدف الحفاظ على إرث علمي وتاريخي وتنمية حجولا وتثبيت صمود أهلها وجذب أبنائها الغائبين».
الدرب لا يزال طويلاً أمامه. لكن آل أبي سعد اختصروا المسافات بعمل جماعي أنتج افتتاح «متحف الأسماك المتحجرة» في سوق جبيل القديم عام 1991. المتحف الذي أبرم اتفاقيات توأمة مع متاحف علمية ومراكز أبحاث في جنيف وباريس، ارتكز إلى اهتمام ابن إهمج (جرد جبيل)، جرجس أبي سعد، بالأحافير خلال عمله في حراثة الأراضي في حجولا. وبحسب الحفيد جوزيف، مدير المتحف، فإنّه خلال عمله مع جيش الانتداب الفرنسي في الثلاثينيات، حمل جدّه متحجرة إلى مركزهم في اللقلوق. أبدوا يومها حماسة وطوّروا تعاونهم معه ومع عدد من أبناء حجولا واستدعوا عدداً من بعثات الاستكشاف. انخرط أبناء جرجس وإخوته في البحث عن المتحجرات داخل الصخور. وبعد سنوات، اكتشفوا موقعاً آخر في بلدة حاقل (وسط جبيل). اشتروا عقاراً فيها وحولوه إلى مقلع خاص يضم متحفاً ومركز أبحاث. جمعت العائلة بين الاستثمار السياحي والعلم. بيار شقيق جوزيف، درس علم المتحجرات في فرنسا، ليورِث وإخوته، الجيل الرابع من العائلة مهنة المتحجرات.