لم يكفِ قوى الظلام والشرّ أنّ آلة الحرب الإسرائيلية تمزّق غزّة منذ 43 يوماً بلا هوادة، بل كان عليها أن تبذل جهوداً كبيرة للتلاعب بالسرديّة، مستخدمة شبكة من الأكاذيب امتدت إلى نسيج وسائل الإعلام الأجنبية ذاته. تحاول قوات الاحتلال الإسرائيلي التعويض عن هزائمها، عبر خلق صورة نصر بأي طريقة ممكنة، مستخدمةً كبريات المؤسسات الإعلامية العالمية في سعيها خلف هذه الأجندة الخبيثة. يرمي «الجيش» الفاسد، مدفوعاً بالزلزال الذي ضربه في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، إلى السيطرة على عقل ووجدان الجمهور العالمي في وقت تبدو فيه الإنجازات الفعلية على الأرض بعيدة المنال. نظموا حملة تضليل ماكرة إلى درجة أنّهم استعانوا بأكبر القنوات التلفزيونية، وأوكلوا مهمّة تصدير المعلومات إلى أبواق تعيد نشر فبركاتهم الخبيثة.
(كارلوس لطوف ــ البرازيل)

ولضمان نجاح البروباغندا، دمج العدوّ مراسلي مجموعة من أبرز وسائل الإعلام التقليدية على نحوٍ إستراتيجي بين جنوده. هكذا، استحال هؤلاء المراسلون بيادق في مخطط الاحتلال. وأثناء سيرهم في صفوف الجنود، ردّدوا الروايات الكاذبة التي زُوّدوا بها. نتحدّث هنا عن «هيئة الإذاعة البريطانية» وشبكة «سي أن أن» الأميركية، اللتين رافقتا جنود الاحتلال وعرضتا «اكتشافاته» المزعومة أثناء اقتحامهم «مجمّع الشفاء الطبي». يقول مراسل «بي بي سي»: «لقد عثروا أيضاً على بعض الملفات الحديثة التي تشير إلى أنّ هذه ربما كانت قاعدة عمليات لحماس منذ بضعة أيام». كيف تأكد المراسل من هذا الأمر؟ ألا يجب التشكيك في كلّ ما يصدر عن قوات قتلت آلاف الأطفال والمدنيين؟ أم أنّ القناة البريطانية التي نشرت الشهر الماضي تقريراً تساءلت فيه عما إذا كانت «حماس» قد بنت أنفاقاً في غزة تحت المدارس والمستشفيات، لم تشبع هي أيضاً من دماء الشعب الفلسطيني الذي حرّضت عليه؟
أما الوسائل الإعلامية التي لم تكن «إسرائيلية» بما فيه الكفاية، فتعرّضت للتوبيخ. على سبيل المثال، واجهت «وكالة الصحافة الفرنسية» ضغوطاً لعدم التزامها بسياسة البثّ «الداعمة بشكل كاف لإسرائيل» في الحرب على غزة، وفق تقارير نشرتها الصحف المحلية الفرنسية أوّل من أمس الخميس. وتشير التقارير إلى أنّ مجلس الشيوخ الفرنسي استدعى الرئيس والمدير التنفيذي لـ «فرانس برس»، فابريس فريز، لتقديم بيان بشأن سياسات البث التي لا تعتبر «موالية لإسرائيل بما فيه الكفاية». وفي خطابه أمام مجلس الشيوخ، أوضح فريز أنّ الوكالة متهمة بـ «زيادة المشاعر المعادية لليهود» لأنّها ذكرت أنّ حماس «معترف بها كمنظمة إرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وإسرائيل»، بدلاً من القول إنّها «منظمة إرهابية»، وهذا هو الحال منذ بداية الهجمات الإسرائيلية على المنطقة. ووصف فريز هذه الاتهامات بأنّها «خطيرة ولا أساس لها من الصحة»، مؤكداً أنّ التغطية «المستقلة» التي تقدّمها الوكالة حول الحرب الإسرائيلية على غزة لا يمكن اعتبارها «منحازة». علماً أنّ الوكالة، التي تتجنّب استخدام عبارات مثل «معاداة السامية، اليهودية، الإسلامية» في أخبارها، انتقادات شديدة من السياسيين اليمينيين والجمهوريين في مجلسي الشيوخ والبرلمان منذ 7 تشرين الأول 2023. كما دعا نواب يمينيون متطرّفون في البرلمان الفرنسي مراراً الحكومة إلى محاسبتها لـ «عدم تأمين تغطية كافية مؤيدة لإسرائيل».
أصبح واضحاً كيف تتنقل إسرائيل استراتيجياً في المشهد الإعلامي الغربي. ونقلت «يديعوت أحرونوت» العبرية بياناً لصحيفة «فايننشال تايمز» رجح أنّ التقديرات الإسرائيلية تُشير إلى وجود قيادات من «حماس» في الجزء الجنوبي من قطاع غزة. أي إنّ الاحتلال يطلب من الإعلام الغربي تسليط الضوء على سردية معينة، ثم يأخذ الإعلام العبري هذه المعلومات عن الميديا العالمية ليُضفي نوعاً من الصدقية على حملته الدعائية المفبركة. علماً أنّ الاحتلال ألقى مناشير على خان يونس (جنوب غزة) أوّل من أمس حول وجود قيادات حماس. كذبة وصلت إلى كلّ خبر وتحليل في وسائل الإعلام العبرية التي صارت تؤكدها، مستندةً إلى مصادر إعلامية غربية كما لو أنّها تتمتع بصدقية أعلى. ومن خلال هذه الأخبار، تسلّط إسرائيل الضوء على «مشروعية» احتلالها لجنوب قطاع غزة، وخصوصاً مع التصريح المتردّد الذي أصدره البيت الأبيض وأكد فيه وجود قيادات حماس في جنوب غزّة، قبل أن يتراجع عنه بعد أسبوع.
تبحث قوات الاحتلال عن صورة نصر لم تقدر على ابتداعها في شمال القطاع رغم آلاف الشهداء والقصف الممنهج على المستشفيات والمدارس والمباني السكنية وحتى مراكز الإيواء التابعة للمنظمات الدولية. وها هو اليوم ينتقل إلى سردية جديدة يعتقد أنها ستقدم له نوعاً من النصر، فيردّد حاجته إلى دخول جنوب القطاع. وبما أنّ خان يونس هي مسقط رأس قائد «حماس» في غزّة يحيى السنوار، فيبدو أنّ العدوّ يريد تدمير منطقة لرمزيّتها، تماماً مثلما حاول دخول مدينة بنت جبيل في الجنوب اللبناني في حرب تموز عام 2006، فقط لأنّ أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، قال ذات يوم من داخلها إنّ «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت».