يتبدّى الجسد في «فَصْل» الذي يُعرض الليلة على خشبة «مترو المدينة» ضمن سيرورة بعيدة عن التسالي. الجسد هنا ليس فرجوياً، بل وعاء للذات كما تبدو في الحياة اليومية. في هذا العرض، تتقاطع علامات التَّشكيل، أي الحَرَكات في اللغة العربية، مع التشكيلات الجسدية، ما يُنتج «أبجدية» ذات خصوصية عالية. يعتمد العرض على الارتجال، أو بمعنى آخر؛ «التفاوض مع الأنماط التي يحدس بها الجسد»، ليكون بذلك تجريبياً إلى أقصى الحدود، وخصوصاً أن كلَّ عرض مقبل، أينما قُدم، يختلفُ من ناحية الترجمة الحركية، وغيرُ ملزم بكادر أو صيغة ثابتة. يبدو الجسد في «فَصْل» (تصميم وأداء: نيفين كلاس ـ عين خارجية: منذر بعلبكي) عصياً، وقاسياً، وميكانيكياً. ينطلق ذلك من خبرة نيفين كلاس في التمثيل والرقص، وممارسة الفنون القتالية. كل ذلك يبدو واضحاً في قدراتها الجسمانية العالية والمحترفة. لم نعتد، في الآونة الأخيرة، رؤية عروض محليّة في الرقص المعاصر، تعتمد على مستويات جسمانية محترفة. تعي مصمّمة ومؤدية العرض أدواتها الخاصة، ويأتي «الإستيتيك» الحركي مترافقاً مع الباطن الدفين، حيث تختزن ذكريات مؤرّقة، وحكايات موجعة، على الأغلب، وتعطينا شعوراً نوستالجياً في عرض أشبه بـ «بروفة» مفتوحة أمام الملأ. «إن كل شعور صحيح» يقول ديفيد هيوم في كتابه «مقياس الذائقة». لا يمكن للمتفرج هنا أن يعي ما الذي يدور في النفس الداخلية للمؤدية على المسرح، لكنّ شعوراً بالثقل، والحنين، والحزن، ينتقل إلينا كمتفرجين، مترافقاً مع صرامة في تعابير وجه المؤدية، ومحاولاتها الانفلات من أي سلطة كانت.

من العرض (تصوير فيكان أفاكيان)

على صعيد الرؤية الإخراجية، أرادت المؤدية اللعب بشكل علني وفجّ لكسر كل ما هو راسخ. يبدو الانسجام والتجانس بين الصوت، والإضاءة، والحركة، واضحاً في «فَصْل». اختارت كلاس مجموعة من الشرائط الموسيقية، التي كانت جزءاً من ذكرياتها، وبثتها في فضاء العرض. شرائط قد لا تبدو مستساغة في عروض الرقص، وتبدو للوهلة الأولى صادمة، لكن سرعان ما تتبدد كل هذه الانطباعات لمصلحة ما يرسخه العرض. «لم نرَ من قبل عروض أداء حركي ورقص، تبث شرائط من هذا الجزء من الذاكرة»، تقول كلّاس في معرض حديثها عن الخيارات الموسيقية. قد يُطرب المتفرج عند سماع جورج وسوف، وملحم بركات، وأم كلثوم، وبروفة بليغ حمدي مع ميادة الحناوي. لكنّ كلاس سرعان ما تترجم بجسدها وتشكيلاتها الحركية، موسيقاهم، على نحو مغاير وغير مألوف. تحاول بتر اللحظات الحميمية، بكثير من القسوة، وتعيد تركيب المشاعر، وفق لغة مغايرة. الأهم أنَّ الجسد لا ينصاع إلى أوامر الموسيقى، بل يترجم كل الانفعالات على نحو شرس ومتفلّت، ضمن مسار مدروس. إضافة إلى ذلك، تكسر كلاس إيهام الجمهور عبر الإعلانات التي تتخلّل الفواصل الموسيقية. إعلانات حديثة، ومفاجئة، ترسخت في ذهن كل روّاد منصة يوتيوب. يبدو هذا الخيار متآلفاً مع العرض برمّته، لأنّه يشكل تشويشاً يقطع السحر، من دون مبالغة في الإخراج أو التضخيم.
في خلفية المسرح، تظهر مجموعة من الرسومات لتشكيلات الجسد الحركية (بصريات جو الحاج) التي رسمتها كلّاس بنفسها، وهي تتميز ببلاغة العلامات. يبدو أن هذه العلامات تشير إلى مفاوضة الجسد مع الفتح، والضم، والكسر، والسكون. سميت الفتحةُ فتحةً لانفتاح الشفتين عند النطق بها، وهذا مشابهٌ للتسليم والانفتاح والعلانية. وسُمّيت الضمة ضمةً لضم الشفتين دلالة على الحب والتقبل. وتوحي الكَسرة، بالانكسارِ والتقهقرِ والألم، والسكون بالكتمان والتواري، وهي كالسكينة، خلاف الحركة، تشبه سكون القلب. كل هذه التشكيلات أدت دورها في رسم تشكيلات الجسد ومآسيه مع الماضي. العرض خارج عن المألوف، وغير متوقع، وجدير بالمشاهدة. شكلت الحركة والانفعالات والارتجالات لحظات آنية، ترافقنا مع المؤدية، التي فرضت بجسدها استجابة جمالية وانفعالية في نفوسنا، وجعلتنا نرى مآلات الجسد وقدرته الهائلة على الفصل حيثما يشاء.

* «فَصْل»: س: 20:00 مساء اليوم الليلة ـــ «مترو المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام:76/309363