مضت 13 سنة على مغادرة ريما مستشفى رفيق الحريري الحكومي، حيث مكثت تسعة أشهر جنباً إلى جنب ابنها علي في قسم سرطان الأطفال، ولا تزال تذكر «الممرّضة المعجزة، صاحبة الطاقة الإيجابية التي أمدّتنا بالقوة وهوّنت علينا رحلة العلاج الشاقّة». لم تكن مهنة التمريض يوماً في نظر هذه الممرضة خدمة مدفوعة الأجر بقدر ما هي «مسؤولية اجتماعية تجسّد العلاقات الإنسانية بأبهى حلل».
بين مرضى السرطان
قضت ليانا قباني ثماني سنوات في الطاقم التمريضي في قسم سرطان الأطفال في مستشفى رفيق الحريري. واكبت خلالها أوجاع صغار، حليقي الرؤوس، الموصولين بالأجهزة والأمصال، والذين طبعت الحقن على أجسادهم ندوباً. وزّعت الابتسامات على الوجوه البائسة، وآنست بشخصيتها الودودة أهال يقضون سنوات برفقة مرضاهم. «الساعات الاثنتا عشرة على مدار أربعة أيام أسبوعياً كانت كفيلة ببناء علاقات متينة مع المرضى وأهاليهم». إلا أنّ علاقة خاصة جمعت بينها وبين الطفل علي، الذي أصيب بالسرطان بعد بضعة أشهر من ولادته. «عندما تشتدّ حالته المرضية وترتفع حرارته كانوا ينادونني بالاسم لأنه لا يهدأ غير بسماع صوتي». شارف علي أكثر من مرة على الوفاة، وطلبت الطبيبة من والدته ووالده توديعه وعدم التعلّق به أكثر، «لكنني في كلّ مرة آخذ بيديهما وأطلب منهما عدم تصديقها لأنه سيعيش وسيرون ذلك، وهو ما حصل فعلاً، إذ شُفي علي من السرطان وصار في الرابعة عشرة من عمره».

مردود مهنتي في الأرض كما في السماء، يستحق (الأخبار)

رغم سوداوية التوقعات التي ينقلها الأطباء لمرضى السرطان، تجد ليانا «أننا محكومون بالأمل، وأنّ العلاج في جزء كبير منه نفسي، لذلك وضعتُ الدعم النفسي ضمن مسؤولياتي». بلسمة الجراح «مسؤولية ليست هيّنة وسط أجواء بائسة ومريض يذوب وأهل تُتلف أعصابهم». فإلى جانب العمل المنهك جسدياً وذهنياً والذي يتطلب دقة وتركيزاً، والدوام الطويل، تصعب السيطرة على المشاعر أكثر في ظل الضائقة المالية التي يمرّ بها الممرّضون في ظلّ الأزمة الاقتصادية وتدني الرواتب، ومع ذلك «يجب أن تبقى قوياً أمام المريض وأهله»، كما تؤكد ليانا.

عندما يموت المريض...
كلّ ذلك في كفّة وأن يموت المريض الذي تابعت حالته وشعرت أنك جزء من عائلته في كفة أخرى. المرة الأولى التي واجهت فيها ليانا هذه الحادثة دخلت في حالة من الصدمة وعلقت في رأسها. شيئاً فشيئاً ازداد عدد الموتى، حتى صار الأمر عادياً، وتراجعت الصدمة مع تكرار الحوادث. تبقى هناك بعض الحالات الاستثنائية التي تطبع أثراً في ذاكرتها، بحسب درجة التعلّق بالمريض. وكلما كثرت هذه الحالات وتراكمت الآثار النفسية في داخلها، تقرر ليانا الانسحاب، حتى «قدّمتُ استقالتي أكثر من 7 مرات وطلبت نقلي إلى أقسام أخرى مرات عدة ثم تراجعت لأنني أحب هذه المهنة دون سواها، ولأنني أرفض التخلّي عن مسؤوليتي».

«التقدير عزائي»
بدأت ليانا العمل في مجال التمريض عام 2007، وتنقلت بين المستشفيات والمراكز العلاجية والتجميلية والأقسام، كما جرّبت العمل مع منظمة غير حكومية تُعنى باللاجئين السوريين والفلسطينيين. لا تهاب التغيير وليس لديها قسم أفضل من غيره. عندما انتقلت إلى قسم العمليات بنت علاقات اجتماعية من نوع آخر، لم تعتد على المرضى كونهم يقضون ساعات في قسمها، لكنّها شعرت بثقل المسؤولية، «شخص يسلمك نفسه، وأهل يطلبون أن تبقى عينك على ابنهم، وتتمهل أثناء الحقن»... تحكي بشغف عن مهنتها، وتروي كيف تعامل جميع المرضى من دون تفرقة، ولا تنتظر تقديراً مادياً بقدر ما يعنيها التقدير المعنوي الذي تراه «خميرتي في الحياة وعزائي على مشقة المهنة وسبب استمراري». في مستشفى رفيق الحريري الحكومي حيث المرضى فقراء لا يعبّرون عن امتنانهم مادياً، تحتفظ ليانا برسائل مكتوبة وأخرى في عقلها، كقول سيدة لها: «أنت الدواء لابني».

مواقف محرجة
ولا تُخفي أن هناك مرضى عدائيون، أو مرضى الزهايمر. وآخرون يفتعلون المشكلات ويتهمونها بالتأخر بالرد عليهم عندما ينادونها عبر الجرس... وهناك من يتحرشون بها لأنهم يسيئون فهم الابتسامة والكلمة الطيبة، عدا عمّن يرى الممرضة خادمة، وهنا تذكر كيف «قام ابن أحد المرضى بتغيير حفّاضة والده ثم رماها أرضاً وأمرني برميها في القمامة. ففعلت، علماً أن وظيفتي لا تشمل التنظيف لكنني اعتبرت أنني أخدم والدي. قهرت حينها وبكيت لكنني عاملته بأخلاقية فاعتذر مني قبل المغادرة».
لدى هذه السيدة التي بلغت الـ38 عاماً، وقضت في مهنة التمريض حوالي 13 عاماً، الكثير لتتعلمه بعد، لذا تتابع دراساتها في المجال. «التضحية» مفهوم يختصر علاقتها بالمهنة. تضحية بصحتها الجسدية والنفسية ووقتها وعلاقتها مع زوجها وابنها... تضحية لا تندم عليها في اليوم العالمي للتمريض لأن «مردودها على الأرض وفي السماء يستحق».