عندما قرر مؤسسو الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان، وعلى رأسهم الرئيسان ألفرد نقاش وسامي الصلح، في عام 1936 تأسيس الاتحاد، كان الهدف الأسمى هو حماية القاصرين على جميع الأراضي اللبنانية، وتسيير ودعم الجمعيات الناشئة التي تخدم هذا الهدف. وعندما تقدّمت المبادرة الشبابية «منزل لكل حدث» (متلي متلك) بمشروع مموّل من السفارة الأسترالية إلى الاتحاد طلباً للدعم والمساعدة والشراكة في المشروع، لم يكن ممكناً إلّا تبنّي هذه المبادرة ومضمونها والتشارك معها تحقيقاً لأهداف الاتحاد، وتشجيعاً للشباب الناشئ المتمسّك بلبنان الأرض والوطن والذي لا يزال يفكر بضرورة دعم الأحداث المخالفين للقانون. بالتالي، أتت هذه المبادرة الإنسانية كبصيص أمل ونور وسط عتمة الضياع والانحراف، وكان التحدي الأكبر أن نقدّم برنامجاً تعليمياً جديداً للأحداث، ومختلفاً عن كل ما تقوم به الجمعيات الصديقة في السجون.توجهنا معاً، كاتحاد ومبادرة، قاصدين سجن رومية المركزي وتحديداً مبنى الأحداث والمشاغل، فجميعنا سمعنا عن سجن رومية المركزي ومعاناته، ولكن من الاستحالة أن تصف أي مكان بشكل دقيق من دون أن تراه بعينيك وتختبره بحواسك. كل ما ترسمه في خيالك وتسجّله في ذاكرتك غير المرئية لا يشبه ما تراه حقيقة. والألم القابع خلف أسوار السجن وأبواب العنابر لا يوازي فسحات النور التي تتسرب إليها.
كان السجن حزيناً، فما بالك بنزلائه. كل أمر إن خلا من لحن الحياة ونضارتها هو حزين قطعاً، فلا شيء يدعو إلى الحياة في السجن، لا الألوان ولا العنابر ولا حتى الممرّات. اقترحنا على آمر سجن الأحداث تعليم الموسيقى للقاصرين كجزء من برامج إعادة التأهيل والاندماج الاجتماعي. وبتاريخ 11/1/2023، حصلنا على موافقة من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لإعطاء دروس في الموسيقى داخل سجن رومية، في مبنى الأحداث. فكم جميل أن يتعلم القاصر كيف يتسلق السلّم الموسيقي ويركب النوتات الموسيقية من دون أن يخرج عنها قيد أنملة كي تصدح جدران السجن بأصوات ترنّم أغاني وطنية وفولكلورية ووجدانية.
في بداية الحصة الأولى، كانت الدهشة مسيطرة والخجل هو المايسترو المحرّك للقاصرين، إلا أن الدقائق سابقت بعضها وانتهت الحصة بحماسة ومحبة ورغبة عارمة في حضور الدروس القادمة في كل أسبوع. وكانت أول تغذية راجعة حصلنا عليها فور انتهاء الحصة نقلاً عن لسان أحد القاصرين: «الموسيقى خلتني إنسى إنّي بالسجن».
في الحصة الثانية، ومن وحي التحضيرات لعيد الأم وأثناء عزف أغنية «ست الحبايب يا حبيبة..» اغرورقت عيون القاصرين وتحشرجت الحناجر، فكان الجو مشحوناً بالعاطفة والاشتياق لأمّهاتهم، كيف لا وكانت أول الألحان الفطرية الموسيقية التي اختبروها منذ تكوينهم الجنيني هي ضربات قلوب أمّهاتهم. حتى إن أحد القاصرين الموهوبين، والذي يتمتع بطبقات صوتية مميّزة، قال لمدرّس الموسيقى: «عم إكتشف حالي.. أنا شخص جديد عم يتغيّر تفكيري، ما بدي إسرق بعد اليوم، صارت الحياة أحلى مع الموسيقى، لأن عندي أمل جديد وفرصة تانية لإقدر كمّل حياتي».
الموسيقى هي الجواب لكل الاستفسارات. فليس خفياً على أحد أنّ الاستماع إلى الموسيقى أثناء الدراسة يحرز تحسينات ملحوظة في المهارات الأكاديمية للطلاب، بسبب الترابط بين الصحة الجسدية والعقلية. حتى إنها قد تصل إلى حد الشفاء من بعض الأمراض. كما تؤثر على عمليةَ التعلُّم والتفكير والتحليل العميق والسريع وتحفيز التركيز وتحسين الذاكرة. فقد أشار بحث حديث إلى أن الصمت بين نوتتَين موسيقيتَين يحفّز خلايا الدماغ والخلايا العصبيةَ المسؤولة عن تطوير الذاكرة الحادّة وتَحسين الإبداع أيضاً، وذلك لتأثيرها الإيجابي على الجانب الأيمن من الدماغ.
وهناك نوعان من التأثير تحدثهما الموسيقى: التأثير الرئيسي الذي يرفع المعنويات ويشحن طاقة الإنسان نحو الأمور الروحية. والتأثير الثانوي الذي يحمل طاقة وقوة تؤثران في الوضع العاطفي والبدني.
اليوم، بعد مرور أشهر على تعلّم الموسيقى، أصبح القاصرون قادرين على العزف على المزمار «Flute»، كما تعلّم بعضهم عزف بعض الألحان على البيانو الإلكتروني.
بعد ذلك، تقدمنا بطلب القيام بحفل موسيقي تتويجاً لإنجازات القاصرين في هذا المضمار، فوافقت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، وأُقيم بحضور ممثلين من السفارة الأسترالية والفعاليات الوطنية والجمعيات الصديقة. كذلك عزفت فرقة الموسيقى في الأمن الداخلي النشيد الوطني اللبناني والأسترالي، كما عزف مدرّس الموسيقى والأستاذ الجامعي محيي الدين كنيعو، وأنشد القاصرون أغاني عدة؛ منها: «أرضي عم تعاني» للكبير وديع الصافي و«نسّم علينا الهوا» للسيدة فيروز و«ست الحبايب»، و«تعلا وتتعمّر يا دار»، والقدود الحلبية، كما قدّم أحد القاصرين الموهوبين أغنية «سولو» من تأليفه.
هي مبادرة، نعم.. لكنها ستستمر. فالصمت في السجن لا بد أن يتحرّر لحناً شجيّاً وصوتاً يتغنّى بلبنان وانتمائنا إليه، فجميعنا مسؤول عن تقديم الأمل وتغيير الواقع بكل الطرائق المتاحة. وكم نحن بحاجة اليوم إلى رؤساء وزعماء وقادة يضعون القاصرين في سلّم أولوياتهم الوطنية، لأنهم هم الأساس وهم الأولوية.

* رئيسة الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان