التوقيف الاحتياطي في لبنان غير قانوني بالنسبة إلى العديد من الموقوفين، إذ أصبحت التجاوزات للمهل بحكم الواقع، والبتّ في الملفات القضائية بطيئاً. أشهر، وربما سنوات، يمضيها الموقوف في انتظار «تحديد جلسة». تتعدد أسباب تأجيل جلسات المحكمة بين غياب قاضٍ أو تخلّف محامٍ عن الحضور أو رفض بعض الموقوفين المثول أو تعذّر سَوق المحكومين إلى قاعة المحكمة بسبب تعطّل الآليات أو عدم توفّر المحروقات. في سجن رومية، حيث العدد الأكبر من الموقوفين والمحكومين في لبنان، قاعة للمحاكمات افتُتحت في حزيران 2012 بهدف تسريع الإجراءات القضائية للموقوفين من ذوي الخصوصية الأمنية (المعروفين خطأ باسم «الإسلاميين»)، وفق ما أعلن حينها وزير الداخلية والبلديات مروان شربل الذي أكّد يومها أن «المحكمة لم تنشأ فقط لمحاكمة هؤلاء، ويمكن تطوير عملها للبتّ في طلبات إخلاء السبيل». إلا أنه بعد كل هذا الوقت، لم يُستفد منها بالشكل المطلوب، فلماذا لا تُستخدم هذه القاعة لتسريع المحاكمات والتخفيف من اكتظاظ السجن المركزي؟ وما هي المعوقات التي تحول دون ذلك؟
بلغ عدد السجناء في لبنان مطلع النصف الثاني من عام 2023 نحو 8200 سجين، موزّعين على 229 نظارة و25 سجناً في مختلف المناطق، أكثر من نصفهم موقوفون على ذمة التحقيق وأبرياء حتى تثبت إدانتهم أمام المحكمة.
ولا شكّ في أن تسريع المحاكمات والبتّ في الملفات القضائية يساهمان بشكل واسع في خفض عدد الموقوفين وحلّ مشكلة الاكتظاظ. غير أن بعض السياسيين وذوي السجناء يطالبون بعفو عام كحل لأزمة السجون، علماً أن اقتراح إصدار قانون عفو أو قانون يحدّد السنة السجنية بستة أشهر سقطا في مجلس النواب ولا يوجد حالياً أي مسعى جدّي لإعادة إحيائهما.
مع الانهيار الاقتصادي المستمرّ والصعوبات التي تواجهها مؤسسات الدولة، وتحديداً قوى الأمن الداخلي التي باتت تعاني نقصاً في العديد والموارد والتجهيزات والصيانة، غالباً ما يتعذّر سَوق الموقوفين إلى قصور العدل لحضور جلسات التحقيق والمحاكمة. فلماذا لا تعود جلسات المحاكمات إلى القاعة الموجودة في السجن المركزي في رومية؟ ولماذا تعترض نقابة المحامين في بيروت على إعادة عقد الجلسات في هذه المحكمة؟
«كثرة الشكاوى من المحامين بسبب الإجراءات المتّخذة بحق المحامين من التفتيش اليدوي، ومنع إدخال الهاتف، وخلع الحذاء، وغيرها، دفعت نقيب المحامين ناضر كسبار ومجلس النقابة إلى التواصل مع مجلس القضاء الأعلى لوقف العمل في المحكمة بشكل مؤقت لحين معالجة الأمر، وقد ساهم اعتكاف القضاة في اتّخاذ هذا القرار» بحسب رئيس لجنة السجون في نقابة المحامين جوزيف عيد، مشيراً إلى أن «هذه الإجراءات جعلت المحامي مقيّداً»، معرباً عن تفهّمه لـ «مخاوف الأجهزة الأمنية من هروب السجناء، خصوصاً أنه يوجد في رومية حوالي 350 سجيناً من فتح الإسلام. لكنّ معاناة المحامي تؤثر بلا شك على أدائه وعمله».
بعد استطلاع «القوس» لآراء النقيب كاسبار وأعضاء في النقابة، تبيّن أن هناك ستة مطالب أساسية يريد المحامون تأمينها قبل موافقتهم على عودة انعقاد الجلسات و«إخلاء سبيل» المحكمة «الموقوفة»، وهي:
1. ألّا تكون الجلسات مخصّصة للقضايا من دائرة جبل لبنان حصراً بل أن تشمل قضايا من سائر الدوائر والمحافظات.
2. أن تُؤمَّن آلية لوجستية آمنة لنقل الملفات القضائية إلى المحكمة في رومية بالشكل والسرعة المناسبين.
3. أن يُسمح للمحامي الدخول بسيارته وتأمين موقف خاص لركنها، أو تسهيل انتقال المحامي من مدخل السجن إلى قاعة المحكمة. يمكن أن تؤمِّن النقابة «فاناً» للنقل ويفترض أن يقوده أحد العسكريين من قوى الأمن.
4. أن يُسمح للمحامي بإدخال هاتفه المحمول إذا كانت زيارته لسجن رومية فقط من أجل حضور الجلسات في المحكمة (حيث لا يُسمح له بالتجوّل خارج إطار المحكمة).
5. أن يُعلن جدول الجلسات بالتفصيل قبل يومين من انعقادها.
6. أن يكون أسلوب تفتيش المحامين مهنياً ويتناسب مع المعايير القانونية.
ولدى السؤال عن مدى إمكانية «الحَلْحلة» من خلال التجاوب مع مطالب النقابة لفت عيد إلى «وجود مساعٍ لجعل التفتيش آليّاً وليس يدوياً، نسعى لجمع إيرادات لتأمين هذه الآلة، الأمر الذي سيسهّل عملية تفتيش المحامين، ويوجد تنسيق مع القوى الأمنية بهذا الأمر». وأضاف أن النقابة تعمل على تأهيل غرف المواجهة في السجن «وإصلاح بعض آليات سَوق الموقوفين ودفع بعض غرامات المحكومين والتواصل مع بعض الجهات الخيّرة لتقديم مواد التنظيف وتأهيل المراحيض، بالإضافة إلى تأهيل وتجهيز غرفة تفتيش مخصّصة للنساء وغيرها من المساعدات».

80% موقوفون في قضايا مالية
في مقابلة لـ«القوس» مع رئيس لجنة تعديل قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية المحامي أنطوان طعمة، شرح أن «هناك صعوبات عديدة نظراً إلى عدم وجود آليات كافية لنقل المساجين، وإن وُجدت فالبنزين والمازوت غير متوفّرين لتشغيلها، إلى جانب النقص الكبير في عديد القوى الأمنية التي تتولى عمل سَوق المساجين، إذ يتشارك موقوفون في سجن رومية، في عدد من القضايا، مع موقوفين موجودين في مختلف السجون، وهنا تبرز المشكلة ذاتها في عملية السَّوق» حتى لو أعيدت الجلسات إلى محكمة رومية. وناشد طعمة الدولة «العمل على تأمين حضور القضاة بشكل دائم ومستمر، ودعم المساعدين القضائيين للحضور بشكل دائم، حتى يتمكن المحامون من متابعة أعمالهم في المرافعة والمدافعة عن الموقوفين أو عن جهة الادّعاء. كما ينبغي تفعيل وتعديل قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية.
شربل: قاعة المحكمة في سجن رومية مجهّزة بمواصفات دولية، وعودة المحاكمات فيها تخفّف الاكتظاظ

نحن نعمل في اللجنة على هذه التعديلات، خاصة أن أكثر من 80% موقوفون في قضايا مالية (احتيال، شيكات بدون رصيد، إساءة أمانة)». وختم: «يقتضي تفعيل المواد 107، 108 و111 من قانون أصول المحاكمات الجزائية وقانون العقوبات بأن يضع القضاة، بدل التوقيف، كفالة مالية تضمن قسماً كبيراً من الأموال التي يدّعي بها المدّعون وتحفظ مصاريف ورسوم المحاكمة التابعة للدولة اللبنانية، وفي الوقت نفسه ينقص كثيراً عدد الموقوفين، الأمر الذي يخفّف عن الدولة الأعباء المالية، إذ يكلّف السجين الواحد يومياً حوالي 20 دولاراً أميركياً ما بين طعام وشراب وطبابة وأدوية وحراسة وغيرها».



محكمة بـ 2.5 مليون دولار.. معطّلة
«جُهّزت قاعة المحكمة في سجن رومية بمواصفات دولية، بتكلفة مليونَين ونصف مليون دولار أميركي» يقول الوزير مروان شربل منتقداً «إهمال القاعة وعدم الاستفادة منها، خاصة في ظل الأوضاع الصعبة التي يمر بها البلد، فهي قادرة على التخفيف من الاكتظاظ في رومية من خلال البتّ في الملفات والدعاوى القضائية للسجناء فيه».
تبلغ مساحة القاعة حوالي 250 متراً مربّعاً، فيها 12 قفص اتّهام موزّعة على ثلاث طبقات (أربعة في كل طبقة)، تبلغ مساحة كل قفص 12 متراً مربّعاً، يتّسع لعشرة أشخاص، وهو مجهّز بنظام مراقبة ومكبّر صوت وميكروفون وزجاج ضد الرصاص وعازل للصوت. تبلغ المسافة القصوى بين قوس المحكمة وأبعد قفص أكثر من 20 متراً، ما يعني أن القضاة مضطرون لاستعمال الكاميرات والميكروفونات للتواصل مع بعض الموقوفين.
عُقدت في المحكمة جلسات عام 2012 لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، قبل أن يتوقف العمل فيها. وفي حزيران 2020 أعلنت «لجنة الرعاية الصحية في السجون» عودة جلسات المحاكمة في قاعة المحاكمات في رومية، إلا أن المحاكمات ما لبثت أن توقفت عن العمل بعد كثرة الشكاوى من المحامين في عهد نقيب المحامين الحالي ناضر كسبار نتيجة معوقات واجهت المحامين خلال عملهم.