«الله يرضى عليك ما تذكرني بالماضي بس إتذكر بتكركب، أنا بعتذر، اسألني لبدك ياه بس هيدا الموضوع ما بدي افتحه»، هي ذكريات غالباً ما يحاول المرء دفنها. كف اليد المطبوع على الوجه، والكدمات، والعظام المحطّمة، والإهانات والشتائم والتحقير مع ما يرافقهم من مشاعر الإذلال. جالت «القوس» على بعض ضحايا التعذيب في أماكن الاحتجاز والنظارات وأثناء التحقيق والتفتيش عند حواجز الضابطة العدلية، للإدلاء بشهادتهم. منهم رفض الرجوع إلى الحادثة كرامي مثلاً. ومنهم من يريد استغلال أي فرصة للتطرق إلى الجريمة التي عانوا منها لمعاقبة مرتكبيها ومحاسبتهم.
«اعترف أو بيجي عطية»
«بعدو صوت المحقق علقان براسي: «عطية قسّي شوي» وببلّش الضرب على بطني بالرينجر العسكري» بنبرة عالية يقول رجا لـ«القوس»، الذي أُوقف بعد أحداث باب التبانة وجبل محسن عام 2015 بتهمة الانتماء إلى منظمة إرهابية وقتل أحد عناصر الجيش اللبناني (بموجب المادة 315 من قانون العقوبات). اعترف بجريمته، وفق قوله، خلال التحقيق وبعد التعذيب «بالعصا المطاطي يلي بيستخدمها عناصر مكافحة الشغب من دون توقف لحتى انْبَحّ صوتي. وهيدي هينة لأنك متوقع الضربة بس الأصعب لما فجأة وخلال الحديث بيسفقك كفّ بتحس رح تفقد الوعي لثواني». يضيف رجا: «التعذيب اللفظي كمان مش أرحم من الجسدي. يعني التهديد باعتقال أهلك وضربهم إذا قلت شي، سبّ إمك وإختك هول أوقات أسوأ من الخبيط». علماً أن التعذيب الذي تلقاه رجا يُعاقَب عليه حتى ولو كان الموقوف مسؤولاً عن أفعاله الجرمية. إذ تُعدّ كل الأقوال التي يدلي بها الموقوف تحت التعذيب باطلة، ولا يمكن الاستناد إليها كدليل.
(راجع «القوس»، 8 تشرين الأول 2022، «ليس بالاعتراف وحده تتحقّق العدالة الأدلة الجنائية لا تكذب ولا تخاف»).

التعذيب لختم التحقيق
وسام، موقوف منذ أكثر من ثلاثة أشهر بجريمة ترويج المخدرات. أُلقي القبض عليه بعد ضبط سيجارة حشيشة الكيف معه. «أنا لمّا توقفت ذلوني وبهدلوني، سبّوا إمي وإختي، كل واحد يفوت يضربني ويفشّ خلقه فيني. وجدوا على هاتفي رقم شخص مروّج، وهو من أقربائي، فظنوا أنني على تواصل معه من أجل ترويج المخدرات». يضيف وسام أن في كل مرة ينفي فيها التهم الموجهة إليه يُحضّر نفسه لتلقي «الخبطة». «النقيب كان عم يشرب شاي سخن فكبّ الفنجان على بطني وحرقني وقال لي: وين مخبّي المخدرات؟». فيكون جوابه دائماً: «أنا ما بروّج بس بدخّن كرمال إنسى همومي والله ما بدي فوت على السجن أنا عم بشتغل وعم إتعب. وبجي بدي كمّل جملتي وباكلها كف على وجي». اعترف وسام بما أسند إليه وهو في انتظار جلسته للإدلاء أمام القاضي بحقيقة ما حصل «التوقيف بلا محاكمة هيدا عذاب إضافي، بدي اتحاكم ودافع عن حالي ما عم إقدر».

تشابه أسماء «ما تواخذونا»
«بدك تقنعني إنك من بيت زعيتر وما خصّك بالمخدرات؟» يتوجه أحد الضباط العدليين إلى صديق جاد الذي أُوقف معه عند حاجز تابع لدورية ليلية. «أول ما شافوا الهويات ما طلبوا إنو ننزل من السيارة، نزّلونا بالقوة وبلشوا ضرب وشتم فينا» يقول جاد لـ«القوس» عن حادثة الاشتباه فيه وبأصدقائه بجرم الاتجار بالمخدرات كون يصادف انتماء بعض تجار المخدرات إلى عائلة صديقه. «مسحوا الأرض بكرامتنا، وكل هيدا ومش عارفين شو عم يصير، كنا فرجة للعالم» يشرح جاد كيف تعرض وأصدقائه للتعذيب أثناء انتظار سحب النشرة: «كف من هون ولبطة من هون، ضربونا لشبعوا». بعد ذلك، تم الاعتذر من جاد وأصدقائه في النظارة بعد التبيّن أن ما حصل هو مجرد تشابه أسماء. «لا المضحك إنو كل هالضرب والخبيط وبدهم يعتذروا كإنهم بحقلهم يعملوا لبدهم ياه ويضربوا ويهينوا العالم ويزمطوا من المعاقبة وكل هيدا مع تشابه أسماء كيف إذا لقطوا المجرمين؟».

التعذيب لا يطال الرجال فقط
«كف بيرجع بوكس بيرجع لبطة وشو ما بيخطر على البال» تقول سارة لـ«القوس» بعد تعرضها للتعذيب خلال التحقيق. «وقفوني بتهمة محاولة قتل. تعرضت أثناء فترة التحقيق للضرب المتواصل لإعترف بشي أنا ما عملته. والضرب كان يستمر حتى لما الدم كان يطلع من رأسي». «أنا سورية وما عندي حدا بلبنان إلا أبي الكبير بالعمر. ومنشان إعترف بالتحقيق جابوا بيي وحطوه قدامي وقالولي إذا ما بتعترفي هلق رح نضل نضرب بيّك لتحكي». بعد اعتراف سارة لإنقاذ والدها، أنصفتها المحكمة بالحكم ببراءتها. لكن العدالة لم تكتمل ولن تكتمل إلا بمعاقبة مرتكبي جريمة التعذيب التي طاولت سارة «أنا هلق هربت من لبنان وعارفة ما بقدر آخذ حقي وإلا رح يؤذوني ويؤذوا بيي».
أما ناديا، فتشرح لـ«القوس» عن التعذيب الذي تعرضت له على مرحلتين، الأولى بـ«اللبيط» الذي أدى إلى كسر في ضلعها. والثانية بالتهديد للتعرض لها ولعائلتها إذا قامت بتبليغ أي أحد عن الحادثة «متّهميني بترويج المخدرات ولو كنت عارفة إنو رح يكسروا ضلعي ويهددوا عيلتي كنت اعترفت من الأول وبلا ما كنت إمرق بهالعذاب كلو». تشير ناديا إلى أنها ليست مدعومة من أحد، وهي غير قادرة على أخذ حقها من داخل السجن، «كل يوم يمر عليّ وأنا في بالسجن يزداد حقدي وكرهي للمجتمع والبلد وكل الفاسدين فيه».

التعذيب حلقة لا تنتهي من العنف
«يختلف رد فعل الأشخاص على التعذيب، ويعود ذلك إلى قدرة الشخص الذي تعرض للتعذيب على التعافي بحسب تركيبته النفسية الداخلية»، تقول الاختصاصية في علم النفس العيادي والعلاقات الأسرية نجوى دعجة لـ«القوس». مشيرة إلى أن هناك ضحايا تعذيب يعانون من حالة ما بعد الصدمة، لأن حياتهم قد تعرضت للخطر. كما أن هناك بعض الحالات من «التدمير الداخلي، حيث يعاني من استرجاع Flashback، وكوابيس، مما يؤدي إلى ردود فعل قد تكون عنيفة. ويصبح دائماً في انتظار حصول مكروه ما، وفي حالة قلق دائمة». وتضيف: «من الممكن أن يؤدي التعذيب إلى اضطراب القلق العام anxiety، ونوبات هلع panic attacks، والمعاناة من فقدان الأمل والتوتر الدائم. والإحساس بالضعف vulnerable، والاكتئاب والحزن الدائم والشعور بالذنب، كذلك فقدان الشهية».
سأله المحقق: بدك تقنعني إنك من بيت زعيتر وما خصّك بالمخدرات؟


على المستوى الاجتماعي، تلفت دعجة إلى أنه «من الممكن لبعض الأشخاص أن يفقدوا الثقة بالآخر ويصبحوا أكثر ميلاً للانعزال، نتيجة الخوف من إنشاء علاقات مع الآخرين أو العار. وعدم قدرتهم على الانتماء لأي مجموعة. كما يصبح الشخص الذي تعرض للتعذيب شخصاً من السهل إثارة غضبه، كما يمكن أن يعاني أعراضاً ذهنية، كتفكك بالشخصية، وفقدان في الذاكرة، واضطراب في النوم. وقد يذهب بعضهم نحو الإدمان على المخدرات أو الكحول كأسلوب سلبي للتأقلم Negative Coping Strategy. وفي حالات قصوى قد يُقدم بعض ضحايا التعذيب على الانتحار». تؤكد أستاذة العلوم النفسية الاجتماعية في الجامعة اللبنانية أديبة حمدان أن التعذيب يعزز حالة النقمة لدى الضحية، الأمر الذي ينعكس على محيطه أو على ذاته (إيذاء نفسه)، كما لا تستبعد فكرة الانتقام من الآخرين. «التعذيب قد يدفعه لارتكاب جريمة عند الخروج من أماكن الاحتجاز. وهذه النية الجرمية قد تكون نتيجة نقمه على المجتمع. وهنا تكمن خطورة تعذيب الفرد على المجتمع. وقد يكون الانتقام عفوياً أو منظماً». تضيف حمدان: «يفترض أن السجن هو مركز لإعادة إصلاح السجين وليس مكاناَ لتعذيبه ولشد عزمه على ارتكاب جريمة جديدة عند الخروج من السجن».
ووفقاً للاختصاصية في علم النفس والخبيرة النفسية المحلّفة لدى المحاكم كريستل بسترس فإن «الضحية التي تعرضت للتعذيب الجسدي أو النفسي (عبر الترهيب والإهانات والشتائم) تتأثر نفسياً. هذا التأثير النفسي لا ينتج عنه اضطرابات نفسية فقط، بل في أغلب الأحيان يظهر بسلوكيات وعوارض عدة كالغضب والقلق والإحباط والشعور بالدونية وفقدان قيمة الذات وتزايد أفكار الانتقام». أما بالنسبة إلى عائلة الموقوف الذي تعرض للتعذيب، تشير بسترس إلى أن «في أغلب الأحيان يكون لدى عائلة الضحية قلق وخوف من تقديم شكوى حتى لا يتعرض لتعذيب إضافي». وتشدد على ضرورة التدخّل النفسي لأولاد الضحية الذين يتأثرون بما يسمعون عن تعذيب آبائهم ويدخلون في دائرة الخوف والقلق والإحباط لمساعدتهم على تخطّي الصدمة.