الطب الشرعي، «الحصن العلمي» الذي يعتمد عليه القضاء لتحقيق العدالة، لا يرتقي إلى مستوى حاجات القضاء ويساهم بشكل كبير في زيادة اللبس عبر الإخفاقات والمغالطات والتناقضات التي تحويها التقارير الشرعية. صحيح أن الطب الشرعي يرزح تحت وطأة الكثير من التحديات والمشكلات (راجع «القوس»، 5 شباط 2022، «الطب الشرعي مريض») إلا أنها لا تبرر «الشيزوفرينيا» التي يعانيها القطاع، لما له من أهمية أثناء التحقيق الجنائي كأداة رئيسة لحل الجرائم بدلاً من الاعتماد على استخراج المعلومات والاعترافات تحت الضغط.يوافق الأربعاء المقبل اليوم الدولي للأمم المتحدة لمساندة ضحايا التعذيب (26 حزيران) الذي دخلت فيه اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة حيّز التنفيذ عام 1987. نوضح في هذا المقال أهمية التركيز على إصلاح قطاع الطب الشرعي والأدلة الجنائية باعتباره قطعة مفقودة من خطط وبرامج مناهضة التعذيب عبر الدمج الناجح للمباحث العلمية في قطاع العدالة، وتطوير القدرات العلمية والتقنية التي تلبّي احتياجات القضاء، بالإضافة إلى المساهمة في تطوير ثقة المجتمع بسيادة القانون، إذ يفترض أن يكون الطبيب الشرعي مسانداً فعلياً لضحايا التعذيب وليس مضلّلاً للحقيقة

أرشيف (مروان طحطح)


«سهلة كتير تجيب تقرير تعنيف من أي طبيب شرعي، وزيد المصريات شوي بيزيد أيام التعطيل». فقد أصبحت تقارير الطبيب الشرعي «حسب الطلب» بين تزوير السجلات الطبية لمدّع من أجل تعزيز دليل إصابته وجعلها تبدو أسوأ مما هي عليه، وتقديم شهادات مزورة لعدم وجود آثار تعذيب في مناسبات أخرى، والتوقيع على إفادة «شاهد خبير» غير صحيحة في محاولة لشرح التغييرات التي أُجريت على تقرير كان قد قدّمه سابقاً.
عدم نزاهة الطبيب الشرعي وتهوره في حسم القضايا الجنائية واستغلاله لمنصبه كطبيب وشاهد خبير في صميم إدارة العدالة، يتسبب في مشكلات خطيرة في تبيان الحقيقة وإقامة العدل، وهو إساءة إلى الثقة التي منحتها المحاكم للأطباء الشرعيين. تلك التقارير الشرعية غير الصحيحة أو غير الكاملة يمكن أن تؤدي إلى توقف مؤقت أو تأخير في الإجراءات القانونية وإلى انتهاك حقوق المتقاضين.
أليس الطبيب الشرعي هو من يرتكز عليه القضاء لإصدار الأحكام؟ ولا سّيما أن القضاة والمحامين يفتقرون إلى الحد الأدنى من المعرفة في العلوم الجنائية من أجل التشكيك أو على الأقل طرح تساؤلات حول المعلومات والأدلة التي يقدّمها الطبيب الشرعي وإعادة فحصها؟

الثقة «عميا»
صحيح أن ثقة القاضي بالشهود الخبراء المحلفين، ولا سيّما الأطباء الشرعيين، هي مفتاح حسن سير العدالة، لكن تلك الثقة العمياء تنطوي على مخاطر عدة. على سبيل المثال، يمكن للأطباء الشرعيين الفاسدين أن يحجبوا الحقيقة وراء مصطلحات علمية «مشوّهة»، مع العلم أنه لا يمكن للقضاة أو المدّعين العامين أو المحامين التشكيك بشكل كاف في نتائجهم أو استنتاجاتهم، بسبب الافتقار إلى معرفة الأسس العلمية للتحقيقات الجنائية وتقنيات المباحث العلمية. نتيجة ذلك، قد تُقنع الشهادات الكاذبة من قِبل متخصصين في الطب الشرعي المحاكم ببراءة المتهمين أو إدانتهم من دون «ذرّة» دليل علمي. وبالتالي، غالباً ما تكون الأدلة الجنائية المادية «غامضة» بسبب سوء فهم قيمتها الإثباتية وأهميتها بشكل أساسي، إذ هناك حالات عديدة من سوء فهم لنتائج المختبر من قِبل القضاة والمحامين في ما يتعلق بأدلة بقايا طلقات نارية، أو الفرق بين بصمة الإصبع والبصمة الوراثية. من هنا، تظهر ضرورة إدراج مواد علوم الأدلة الجنائية وتطبيقاتها في مسرح الجريمة بصورة إلزامية في معهد الدروس القضائية ومرحلة تدرّج المحامين.

كوارث تقارير الأطباء الشرعيين
تشكل تقارير الطب الشرعي المتحيّزة تهديداً للسلسلة الجنائية والمحاكمة العادلة، فإذا لم يكن لدى المحكمة خبرة موثوقة وفعّالة في الطب الشرعي، قد تكون العواقب خطيرة على مستوى تطبيق العدالة وانتهاك حقوق الضحايا أو المشتبه فيهم أو المحتجزين.
الفساد والإهمال مشكلتان كبيرتان. فمن خلال النتائج الخاطئة لتشريح الجثة مثلاً، قد يُحكم على جريمة القتل بأنها انتحار، ما يؤدي إلى تضليل التحقيق وإدانة أفراد أبرياء، وترتّب آثاراً سلبية بعيدة المدى على أُسر الضحايا. أضف إلى ذلك تأثير الأدلة التي يقدمها الطبيب الشرعي على القضاة، كالافتراضات المعيبة في علوم الطب الشرعي والأدلة الجنائية غير الموثوقة مع حدود غير واضحة. فيقدّم الأطباء الشرعيون غالباً آراء حول الأدلة خارج مجال خبرتهم، كإعطاء إفادات عن دراسة الدم في المحيط أو مسار الطلق الناري أو مخلفات إطلاق النار التي هي من اختصاص الخبير الجنائي حصراً. أو من خلال حسم طبيعة الحادثة (قتل/ انتحار) بعد معاينة الجثة، علماً أن وظيفة الطبيب الشرعي هي وصف الجروح على الجثة والسبب الفيزيولوجي للوفاة (توقف القلب، أو نزف داخلي..)، وتحديد وقت الوفاة، والذي قد يتعذّر على الطبيب تحديده في بعض الأحيان، فيُستعان بخبراء جنائيين في علم الحشرات.
من المفترض ألّا يُمارس الضغط على المتخصصين في الطب الشرعي لضمان نتيجة معيّنة قد لا يكون لها علاقة بالحقيقة العلمية. لكن، قد يأتي هذا الضغط من وكالات مختلفة داخل نظام العدالة أو من مصادر خارجية، مثل السياسيين أو المسؤولين الفاسدين. إذا لم تستطع إدارة الطب الشرعي حماية المتخصصين من الضغط والفساد، فإن استقلال نظام العدالة مهدد بشدة.

تواطؤ «شرعي» في التعذيب؟
يشمل تواطؤ الأطباء الشرعيين في التعذيب أثناء التحقيق أمثلة عدة كالتدخل الفعلي في التعذيب، واستخدام المعرفة الطبية للمساعدة في تقنيات «الاستجواب تحت الضغط»، والإشراف على استخدام المواد الكيميائية للتعذيب، وتقديم تقارير طبية كاذبة. أو من جهة أخرى التواطؤ السلبي (passive) كعدم الإبلاغ عن التعذيب. ففي هذه الحالة، هل يوفر الأطباء في الاستجواب درعاً أخلاقياً يمنح هالة «الاحترام» على الممارسات التي تنطوي على التعذيب؟
قد يكون أحد العوامل التي يمكن أن تسبب التواطؤ الطبي في التعذيب هو «الولاء»، إذ يضع الأطباء المصالح المتصورة لمنظمتهم أو دولتهم قبل واجبهم الأخلاقي المطلق في الرعاية الطبية. أو قد يكون، في حالات أخرى، مقابل تحقيق مكاسب مادية أو نفوذ أو سلطة.
لكن في النهاية، تنتهك جميع أشكال التواطؤ الطبي في التعذيب، سواء كان فعلياً أو سلبياً، بشكل أساسي أخلاقيات مهنة الطب وقسم أبقراط ومبدأ «لا ضرر ولا ضِرار»، والقواعد الأخلاقية الطبية التي تحظر على المهنيين الصحيين (الأطباء وعلماء النفس) المساعدة في التعذيب المعروف في السجون.
لذلك، من الضروري إيلاء اهتمام خاص لتوثيق أي شكل من أشكال التواطؤ الطبي في التعذيب خلال إجراءات التحقيق في الممارسات المتعلقة بالتعذيب وبغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة، عبر إجراء تحقيق مستقل.

خبراء «بلا مصلحة»
أُضيفت «مصلحة الطب الشرعي والأدلة الجنائية» عام 1985، إلى الهيكل التنظيمي لوزارة العدل. ومن المفترض أن تحدد هذه المصلحة بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء بناءً على توصيات وزير العدل. فالخبير الجنائي المحلّف من القضاء والمعتمد لدى وزارة العدل ليس لديه أيّ «مصلحة» يركن إليها أو تنظّم عمله أو توحّد إجراءات ومعايير المحققين الشرعيين المعتمدين من وزارة العدل في مختلف مجالات التخصص.
ضرورة إدراج مواد علوم الأدلة الجنائية وتطبيقاتها في مسرح الجريمة بصورة إلزامية في معهد الدروس القضائية ومرحلة تدرّج المحامين


من الضروري إدراج قطاع الأدلة الجنائية ضمن تصميم وتنفيذ وتقييم عملية إصلاح القطاع الأمني، ولا سيّما أن جودة هذا القطاع وحياده هما مكوّنان رئيسيّان لنظام عدالة جنائية فعّال يعتمد على الدليل الجنائي لحل القضايا والجرائم، الأمر الذي يقلل من الاعتماد على «الاعترافات» خلال التحقيق، وبالتالي مناهضة التعذيب.

كيف تكون بداية الحل؟
مناهضة التعذيب تحتاج إلى خطة إصلاح متكاملة تبدأ بتطوير الموارد والقدرات العلمية والتقنيات الحديثة في علوم الطب الشرعي والأدلة الجنائية. ويكون ذلك عبر توفير منهج منظّم لقوى الأمن الداخلي للالتزام بدليل التدريب في مجال الكشف على مسرح الجريمة والذي سيوفر سجلات موثوقة ويعزّز جودة الأدلة التي يتم الحصول عليها وجمعها. بالإضافة إلى وضع آليات المساءلة وتطوير قواعد السلوك والإجراءات التأديبية للأطباء الشرعيين والخبراء الجنائيين، والتقيّد الصارم بالمعايير الدولية المتعلقة بخصوصيات قطاع الطب الشرعي. في معظم النظم التعليمية، من المفترض على الأطباء دراسة ما يقارب خمس سنوات إضافية حتى يصبحوا متخصصين في الطب الشرعي.
وبالتالي، فإن خبراء الطب الشرعي لديهم واجب أخلاقي ومهني لمنع الأخطاء في الأسلوب أو التحليل أو التفسير في القضايا الجنائية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن الخطأ في عمليات تشريح الجثث لأنها غير قابلة للتكرار. لذلك من المفترض استخدام جميع الوسائل المتاحة لتجنّب الأخطاء التي قد تضرّ بالقضية الجنائية.

هل يوفر الأطباء الشرعيون في الاستجواب درعاً أخلاقياً يمنح هالة «الاحترام» على الممارسات التي قد تنطوي على التعذيب؟


كما تشمل خطة مناهضة التعذيب تحسين التواصل بين القاضي المشرف على التحقيق ووكالات إنفاذ القانون. فلا يجوز أن يقتصر دور القاضي على تلقي نتائج استجواب الموقوفين وإصدار أوامر قضائية، بل من المفترض أن يزور القضاة المشرفون على التحقيقات الأماكن التي يوجد فيها الموقوفون للتأكد من أن أوضاعهم قانونية وتتناسب مع ظروف اتفاقية مناهضة التعذيب وتُطابق المعايير الدولية الدنيا لمعاملة السجناء.

تقرير لجنة حقوق الإنسان
في 15 حزيران الجاري، صدر التقرير السنوي للهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمّنة لجنة الوقاية من التعذيب. وقد جاء في الفقرة الخامسة من التقرير «أنشطة اللجنة الوطنية للوقاية من التعذيب» أن اللجنة أعربت «عن قلقها الشديد إزاء استمرار ارتكاب جرائم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة في العديد من أماكن حجز الحرية في لبنان، والتي من المفترض إغلاق العديد منها ونقل المحتجزين فيها إلى أماكن أقل خطورة».
كما أعلنت أنها «زارت عدة أماكن حرمان من الحرية؛ بينها 5 زيارات للسجون ومراكز الاحتجاز المدنية والعسكرية». وقد سلّمت تقريراً بخصوص هذه الزيارات إلى لجنة الأمم المتحدة الفرعية لمنع التعذيب.



العنف الجنسي: تعذيب للحطّ من الكرامة
يُستخدم العنف الجنسي كأداة للإرهاب والتعذيب لأغراض الانتقام أو التحقيق أو فقط لغرض انتهاك الكرامة. ولكن، غالباً ما يُصرف النظر عن هذا النمط من التعذيب من قِبل الضحايا أنفسهم، الذين يشعرون بالإذلال الشديد والاشمئزاز من الذات والعار والذنب وعدم القيمة. كما يصبح الكشف عن هذه المعلومات صعباً جداً، بسبب الوصم الشديد للجنس في المجتمع. وقد يكون هذا الاعتداء أصعب على الرجال الذين يواجهون المشاعر نفسها والوصمة التي تشعر بها النساء.
تستخدم هذه الأساليب لممارسة الترهيب وغرس الخوف أيضاً، كأن يقول المحقق للمشتبه فيه: «زوجتك هنا، في الغرفة المجاورة لتسمع صوتها أثناء اغتصابها»، أو أن يستدعي زوجته للمشاهدة أثناء التعدي الجنسي عليه، أو عندما يُعتدى عليه علناً أمام أفراد الأسرة أو شركاء الاحتجاز.
يمنع العار والخوف والوصم والعديد من العوائق الأخرى عدداً من الضحايا من تلقي العلاج أو حتى السعي إلى الحصول عليه، كما أن كتمان هذه الانتهاكات يساعد في انتشارها.


الطبيب الشرعي في مواجهة التحديات
»حتى ما يروح الصَالِح بعزا الطَالِح»، لا بد من الإشارة إلى أن على جدول مصلحة الطب الشرعي في وزارة العدل أطبّاء أكْفَاء ملتزمين بالمعايير الأخلاقية وآداب مهنة الطب، إلا أن عملهم يتأثر إلى حد كبير بالتحديات العلمية والتقنية وحتى التشريعية التي تواجه القطاع، رغم الأهمية التي يمثلها لمساعدة القضاء على كشف الحقيقة. وبسبب الافتقار إلى التقنيات العلميّة المتطورة والمشارح المتخصّصة والحديثة، التي من المفترض أن تكون متاحة وموضوعة تحت تصرف كلّ الأطباء الشرعيين في نظام العدالة الجنائية في لبنان، يضطر الطبيب إلى إجراء المعاينات والتشريح في مستشفيات غير مجهّزة بالمعدات المطلوبة. لا بدّ من الالتفات إلى ضرورة مشاركة الطبيب الشرعي في الندوات والمؤتمرات المتخصّصة بشكل دوري، ومتابعة التطورات في مجال عمله، مما يساعده على تأدية واجبه بفعالية ومهنية وإخلاص. أما من الناحية القانونية، فحتى الآن لم يصدر المرسوم التنظيمي لمصلحة الطب الشرعي والأدلة الجنائية، فيُكلّف الطبيب في القضايا بغضّ النظر عن مجال اختصاصه ومؤهلاته العلميّة، والطبيّة والعمليّة.


«الحقيقة العلمية» مكلفة
لا تتناسب المخصصات المالية التي يحددها القاضي للخبير المكلف بقضية جنائية مع النفقات والمصاريف التي يتكلفها الخبير أثناء تنفيذه المهمة. يزداد الأمر سوءاً مع تدهور العملة الوطنية وارتفاع أسعار المحروقات. تتعدد النفقات التي يتكلفها الخبير خلال التحقيق بقضية جنائية، نذكر الأساسية منها:
• الانتقال إلى قصر العدل لتبلغ المهمة.
• تصوير الملف في مكتب داخل قصر العدل (بأسعار مرتفعة مقارنة مع المكاتب الأخرى).
• تحضير الاستدعاءات للقاضي والانتقال إلى قصر العدل لإرفاقها مع الملف.
• الانتقال إلى قلم القاضي لتبلغ القرارات.
• البدء في تنفيذ المهمة والتي تشمل الانتقال إلى أماكن مختلفة على سبيل المثال: المعلومات، ومسرح الجريمة، وجلسة الخبرة مع المحامين، وغيرها.
• يشمل التحقيق معدات ومواد مكلفة بالدولار.
• تحضير التقرير وطباعته.
• الانتقال إلى قصر العدل لإضافة التقرير إلى الملف.
• الانتقال إلى قصر العدل لتسلّم الأتعاب (وفي بعض الأحيان ينتظر الخبير الجهة المستدعية شهوراً لتسلّم المبلغ بالليرة اللبنانية).
أضف إلى ذلك، عدم الأخذ في الاعتبار ما بذله الخبير من وقت وخبرة وجهد للوصول إلى الحقيقة العلمية.