«إن العقبة الكبرى أمام توسيع السلام لا تعود إلى قادة الدول حولنا، وإنما إلى الرأي العام السائد في الشارع العربي». في كلمة ألقاها رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عام 2017، بمناسبة ذكرى زيارة الرئيس السابق محمد أنور السادات للكيان الإسرائيلي، لخّص فيها مصير اتفاقياته وآماله البعيدة المنال. ورغم تطبيع بعض الدول العربية مع كيان العدو الإسرائيلي، وآخرها اتفاقية إبراهام التي شملت دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، لا تزال القضية الفلسطينية حاضرة عند الشعوب العربية رغم التضييق الذي تمارسه بعض الدول المطبّعة. والدليل على ذلك، ما شهدناه مع العملية التي نفّذها الجندي المصري محمد صلاح الذي عبر ببندقيته معبر العوجة عند الحدود المصرية - الفلسطينية ليقتل ثلاثة من جنود العدو المحتل.. بعد 45 عاماً على اتفاقية كامب ديفيد

«آمل توقيع اتفاق سلام مع السعودية (..) إذ نملك فرصةً رائعة لتعزيز السلام في منطقتنا. لقد حققنا بالفعل منعطفاً تاريخياً من خلال التوقيع على الاتفاقيات الإبراهيمية، وبالطبع الاتفاق مع السعودية سيُعَدّ نقلة نوعية (..) وبالتالي مثل هذا الاتفاق قد يرسم الطريق لإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي. ليس ذلك فحسب، بل سيسهم في إيجاد حل للقضية الفلسطينية». من حديث لرئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقابلة أجراها مع شبكة سكاي نيوز بتاريخ 9/6/2023. لا يكاد يمر يوم من دون تصريحات صادرة عن رئيس وزراء العدو أو حتى عن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن حول مساعي إبرام اتفاقية سلام بين العدو الإسرائيلي والسعودية (حيث أشار بلينكن إلى ذلك مرتين خلال ثلاثة أيام) الأولى بتاريخ 5/6/2023 والثانية خلال مؤتمر صحافي مشترك في الرياض مع وزير الخارجية السعودي بتاريخ 8/6/2023. يظن العدوّ أن هذه الاتفاقية سيقابلها الشعب السعودي بأذرع مفتوحة. لكن ما نشهده على أرض الواقع يؤكد تمسّك الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية، ومن ضمنهم السعوديون.
ولعل أبرز حدث ظهر خلاله موقف الشعوب العربية من العدو هو كأس العالم لكرة القدم 2022 التي أقيمت في دولة قطر، حيث قاطع عدد من المشجعين من مختلف البلدان العربية مراسل العدوّ الإسرائيلي، ورفض أحد المشجعين السعوديين إجراء مقابلة معه، مؤكداً أن المراسل «غير مرحّب به هنا».

التطبيع كان وسيظل مرفوضاً
يتحدث فيصل ابن مدينة نجد مع «القوس» عن استغرابه لوجود شكوك حول عدم التمسك بالقضية الفلسطينية من قِبل الشعب السعودي. ويشدد على أن «التطبيع سيبقى مرفوضاً». ويضيف: «لا تزال الصورة اللي تربّينا عليها تتوارث» ألا وهي نبذ الاحتلال والمستوطنين، ونبذ المطبّع من الشعب. يمكن أن يُلاحظ ذلك، وفق فيصل، في أبسط الأشياء «من الحوارات إلى المزاح والنكت حول من لديه كراهية أكثر للكيان المحتل». يستذكر حادثة عالقة في ذهنه خلال معرض الكتاب في الرياض عام 2022 حيث كان الإقبال كبيراً على كتب غسان كنفاني «وأغلب الناس الذين كانوا يشترونها شباب بأعمار صغيرة». وبعد كل عملية فدائية في فلسطين المحتلة «جدتي توزع علينا حلويات عندما نبلغها بالخبر».

التمسك بالقضية رغم كل شيء
أمل، من سكان القطيف، تصرّ على توافق أهل الجزيرة العربية على أن التطبيع لا يمثلهم ولا يعبّر عمّا يفكّر به أهل السعودية، وهو اعتداء على تاريخهم في الدفاع عن القضية الفلسطينية ومقدساتها. وتقول إن «الإجماع الشعبي الوطني متمسّك بفلسطين، وكل شبر فيها يعبّر عن موقف الشعب الحقيقي والثابت، وإن استمرار هذه الجريمة يجعل من النظام معزولاً ومخالفاً لإرادة الشعب وقراره الراسخ».

75% من الشعب السعودي يرفض التطبيع

يشير استطلاع أخير أجراه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (The Washington Institute For Near East Policy) صادر في آذار 2022 إلى انخفاض الدعم الشعبي لاتفاقية إبراهام في الخليج. لا يقتصر تراجع النظرة الإيجابية حول اتفاقية السلام مع العدو الإسرائيلي على الشعب السعودي فقط، بل أظهر الاستطلاع أن نظرة الشعب البحريني والإماراتي السلبية حول الاتفاقية ارتفعت أيضاً، ليصبح عدد المؤيدين للاتفاقية بحسب الدراسة «أقلية». إذ تبلغ نسبة الرافضين للتطبيع من الشعب السعودي 75%، بينما تبلغ نسبة المؤيدين منهم 19%.

تلفت أمل إلى أن شعب الجزيرة لا يزال يرفع صوته عالياً في المنابر والمناسبات الدينية وكل محفل يمكنه ذكر فلسطين «رغم المنع والتضييق والقمع، واستخدام الإرهاب الرسمي، وتغييب الإعلام وحجبه عن نقل الصورة الحقيقية والواقعية وتزييف الوعي الشعبي عن القضية الفلسطينية، فهذا النظام لطالما سعى إلى تصوير الشعب بأنه تابع للحكومة وراضٍ عن قراراتها ومتعايش مع فكرة السلام الذي يريده العدو الصهيوني». توضح أمل أن هناك اختلافاً بين الحاكم والمحكوم، فمهما طبّعت السلطات الحاكمة وحاولت أن تفرض التطبيع مع العدو على الشعب المحكوم، يرفض كثيرون فكرة التطبيع رفضاً قاطعاً، «مثال على ذلك، خالد العمير الذي تظاهر وحيداً ضد الحرب على غزة، ليعتقل بعدها ويكون عميد المعتقلين». كان العمير قد صرّح بأن «السجن أحبُّ لي من أن أرى تلك الدماء التي سالت على أيدي الصهاينة المجرمين». وتضيف أمل إن محمد الربيعة لاقى المصير نفسه، إذ اعتُقل لدعمه فلسطين، «ربيعة الذي دائماً ما يردّد أن فلسطين هي مركز تتشكل عليه وحوله خياراتك في المنطقة والعالم، ومن دون دعمها لا يمكن بناء استراتيجية أمن قومي مستقلة». ووفقاً لأمل ورغم جميع «محاولات النظام تكميم أفواه الشعب وجعلها غير مبالية لما يجري في فلسطين، سيبقى شعب الجزيرة العربية داعماً لهذه القضية».

قلة قليلة لا تمثلنا
«لم يكن التطبيع مع الكيان الصهيوني موضوعاً قابلًا للنقاش قط في محيطي» تقول ياسمين لـ«القوس»، وهي من سكان نجد. فالتطبيع أمر مرفوض في أوساط عائلتها وأصدقائها. ولم يكن التطرق إليه في الأحاديث والتجمعات إلا تأكيداً على رفضه. تضيف ياسمين إن رفض التطبيع يكاد يكون الموضوع الوحيد الذي يتفق عليه الجميع باختلاف المرجعيات والقناعات السياسية والاجتماعية وسط الدائرة الواحدة. «اعتدنا على أن موقفنا من القضية الفلسطينية ومركزيتها هو الجامع الأول وإن اختلفت تأويلاتنا لمختلف القضايا السياسية والإنسانية». تشدد الشابة الثلاثينية على أنه «رغم تعالي أصوات قلة تنادي بالتطبيع أخيراً، فإن التمسك بموقفنا ضده يظهر بشدة ويتجلى لدى الأجيال التي تصغرنا سنّاً برغم ابتعادهم عن الانغماس في السياسة». إلا أنها تلاحظ حماسة وإصراراً على تبني القضية، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر برفض التطبيع الثقافي ومقاطعة الأعمال الفنية التي تكون للعدوّ صلة بها بشكل أو بآخر. تخلص ياسمين الى أن «الموقف الرافض للتطبيع لا يزال هو الموقف السائد للأغلبية، والقلّة التي تدعو له ما هي إلا أصوات لا نكاد نراها إلا على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما الواقع الذي أعيشه يثبت خلاف ذلك».

عن أيّ سلام تتكلمون؟
في مقال نُشر سابقاً (راجع «القوس»، 22 نيسان 2022، «سلام بلا عدل: مزيد من القتل») تناول عدد الشهداء والجرحى الفلسطينيين بعد توقيع كل اتفاقية سلام. ولعل من المفيد إعادة نشر هذه الأرقام للتذكير بالنتائج الدموية لتلك الاتفاقيات، ومدى ضعف مزاعم الاحتلال عن أن اتفاقية السلام ستؤدي إلى الاستقرار.
لا يمكن لكلمة «سلام» أن تجتمع مع العدو الصهيوني، الذي لا يترك فرصة إلا ويؤكد فيها أحقيته بالأراضي العربية لبناء دولة إسرائيل الكبرى وتوسيع مطامعه الاستعمارية.
فبعد كل اتفاقية سلام عربية مع العدو الإسرائيلي، تزداد جرائم الإسرائيليين بحق فلسطين وشعبها.

جدّتي في نجد توزع علينا الحلويات بعد كل عملية فدائية في فلسطين المحتلة


بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1978، ازدادت همجية سلطة الاحتلال، ليسقط ما لا يقل عن ألفَي شهيد فلسطيني، بينهم حوالي 241 طفلاً، ونحو 90 ألف جريح ومصاب، و75 ألف معتقل، فضلاً عن تدمير 1,228 منزلاً.
بعد توقيع اتفاقية «أوسلو» عام 1993، لم تنتهِ الاعتداءات، بل على العكس كثرت المواجهات المسلحة وتصاعدت وتيرة الأعمال العسكرية واستشهد حوالي 7000 فلسطيني، وبلغ عدد الجرحى نحو 50 ألفاً.
بعد توقيع اتفاقيات «إبراهام» عام 2020، خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2021، هدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي 666 منزلاً فلسطينياً ومباني أخرى في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، ما أدى إلى نزوح 958 شخصاً، بزيادة قدرها 38% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020. كما قصف العدو حوالي 1500 هدف في قطاع غزة، ما أدى إلى استشهاد ما لا يقل عن 260 فلسطينياً، من بينهم 66 طفلاً، وجرح 2200.
أيّ اتفاقية «سلام» بين العدوّ الإسرائيلي والسعودية أو مع أيّ بلد عربي آخر تعني شيئاً واحداً فقط، المزيد من المجازر والهدم وتوسيع الاستيطان. فلا يطمح العدو الإسرائيلي إلى تحقيق سلام عبر اتفاقياته، كما يدّعي، بل إلى استعمال الاتفاقية كغطاء لاستمراره في ممارسة شتّى أنواع جرائم الإبادة بحق الشعب الفلسطيني. هذه الاتفاقية، إن حصلت، لن تغيّر شيئاً من موقف الشعوب العربية تجاه القضية، ولن توقف الشعب الفلسطيني عن مقاومته.