كانت لرجال دين من المذهب الشيعي إطلالة عابرة للطوائف اللبنانية منذ أكثر من ثلاثة عقود: أصحاب السماحة الإمام موسى الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والعلّامة المرجع محمد حسين فضل الله. كلٌ منهم، على طريقته وبانفتاحه وفصاحته أوحى بأنّ لبنان العيش الواحد مشروع ممكن، ويؤدي إلى بناء دولة مؤسسات والتوجه معاً إلى المواطنة الحقيقية. ولعل أبرز أصحاب السماحة المذكورين قامة فكرية، وأكثرهم غزارة في الكتابة وأعمال البر والإحسان كان العلّامة محمد حسين فضل الله، فقد ترك انطباعاً لمن لم يتعرف إليه عن كثب. لم يلقَ لدى بقية الطوائف ما استحقه من إكبار وإجلال وتقدير، مع أنه كان، بلكنته العراقية وصوته الحنون المميزين، متصدّراً دائماً الرموز الشيعية الوطنية الجامعة.
زارني ذات يوم من العام 2008، في منزلي، الوزير السابق عدنان السيد حسين، واقترح عليّ أن أزور السيد فضل الله. قبلتُ فوراً، مع أنه كان عليّ أن أتوجه إلى الضاحية الجنوبية التي لم أزرها منذ الستينيات. لم أراجع من كان عرّاب توزيري. ولم أطلب حماية خصوصية غير تلك المخصصة لوزير عدل منكبّ على إكمال تسيير أعمال المحكمة الخاصة بلبنان.
ما إن تحدد الموعد حتى انطلقنا، رغم تساؤلات عائلتي، باتجاه الضاحية، وسلكنا طرقات بدت لي متعرّجة وضيّقة ومستحدثة. كنتُ فرحاً وتوّاقاً للقاء مرجع استثنائي وللاستماع إليه، فأستجيب لفضولي، وأشاركه طموحي الحميم للبنان السلام والأخوّة والحضارة والثقافة والانفتاح.
لم أعرف كيف وصلنا إلى مقر ولي «دار المبرّات». لكنني أذكر تماماً أن ابن العلّامة استوقفني قبل ولوجي مكتب والده ونبّهني قائلاً: «اعذرني ولكن الوالد لا يستطيع الاستقبال لأكثر من نصف ساعة، لأسباب صحية محضة». بالطبع، تفهّمتُ هذا الواقع.
دخلتُ على العلّامة. وجدته شبيهاً تماماً بالصورة التي يوحي بها: قامةٌ مديدة، ألفاظٌ معجونة بالعبارات المختارة، نظراتٌ ثاقبة وقلبٌ يتسّع لمحيط من الود والمحبة. لم أعد أذكر تفاصيل ما كان يود العلّامة الإفصاح عنه، لأنني كنتُ مأخوذاً بانفتاحه وعلمه. فقد أشاد بزعماء غير مسلمين على نحو فاجأني، لدرجة أنني تساءلتُ عن مدى التأثير الذي يولّده القائد من دون أن يعرف مداه وعمقه في نفس الآخرين. كما شرح نواحي متعددة من التعاليم والفتاوى بطريقة تجعلك تحتقر العصبية الدينية والمذهبية. فانصبَّ ما سمعته على إبراز حضارة المعتقدات الشيعية، وحيوية الدعوات السيادية، والتقدير الكامل لنضال كل من كميل شمعون وفؤاد شهاب وبيار الجميل وريمون إده، ومواقفهم الاستقلالية وتوقهم لبناء دولة.
أعترفُ بتواضع كليّ أنني لم أستطع تقديم إضافات كثيرة لما كان يريد سماحته إفهامي إيّاه، وكأنه قرر تخصيص اللقاء للإفصاح عمّا يكمن في قلبه وفكره وخواطره، فأقفُ على حقيقة تراث علماء الدين في جبل عامل.
عند خروجي بعد الدقيقة الثلاثين المحددة لي، حمّلني ابن سماحته كمية من الكتب بلغ عددها 21 كتاباً، قائلاً: «هذه هدية من الوالد، عسى أن تجد في طيّاتها ما يمدد لفرح هذا اللقاء».
توفى الله العلّامة المرجع في الرابع من تموز 2010 ولم يكن قد جاوز الرابعة والسبعين، تاركاً عدداً مذهلاً من المؤسسات الرعائية والمراكز الصحية والمعاهد والمدارس والمؤسسات الخيّرة والمؤلفات. فقرّرتُ أنّ أضعف الإيمان يفرض عليّ تقديم واجب العزاء؛ فطلبتُ من نواب القوّات اللبنانية مرافقتي إلى الضاحية حيث قدمنا التعازي بكل خشوع.
وبقيَت حسرةٌ في قلبي، لأننا لم نقدم للعلّامة المرجع كل ما يستحقه من تعظيم وإكرام في بلادنا المتعذّبة والمفتتة والمتسكعة على رصيف الانغلاق على الطائفية، وعلى النفس.

* بروفوسور في جامعة القديس يوسف، وزير عدل سابق