حدّثنا عن مرتكزات فكر وعقيدة السيد فضل الله وعن مفهومه للعدل والإنصاف والعدالة الاجتماعية- تحقيق التوازن والمساواة يكون في التوزيع العادل للثروات والموارد في المجتمع. كما أن العدالة الاجتماعية تتحقق من خلال تبني المجتمع لسياسات وبرامج وقوانين تقلل من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين أفراد المجتمع وليس العكس. كما توفّر الخدمات الأساسية لجميع أفراد المجتمع بغضّ النظر عن ظروفهم المادية، وذلك من خلال توفير فرص عادلة للتعليم والصحة والعمل والسكن والمشاركة السياسية.
كان السيد فضل الله من رواد العدالة الاجتماعية، إذ لم يقبل الواقع والتقاليد العرفية، بل خرج عليها. ولتحقيق هذه العدالة لا بد أن تتمظهر في فكر منفتح، وهذا ما تجلى في فكر السيد منذ بداية حياته، حيث اقتحم ميادين كان مجرد التفكير فيها يُعدّ تجاوزاً للعرف السائد في الوسط التقليدي. وعندما كان في العراق، وخلال دراسته في سنواته ما قبل العشرين، كان يذهب بنفسه إلى الأماكن الفقيرة والنائية في النجف ليتفقد أحوالها ويساند الفقراء والمحرومين. حمل السيد هموم المستضعفين وحين عاد إلى لبنان وسكن في منطقة النبعة المتنوعة دينياً وطائفياً، وبدأ عمله المؤسسي في جمعية أسرة التآخي الخيرية، أنشأ مستوصفاً مجاوراً للمسجد والمعهد الشرعي، واهتم بموضوع تنظيم الأسرة ومساعدة الفقراء وبنى مدرسة لكنها لم تكتمل بسبب الحرب اللبنانية.

ما السبل التي طرحها السيد فضل الله لحل المشكلات بين اللبنانيين إبان الحرب؟
- كان السيد فضل الله يصف الحرب اللبنانية التي بدأت عام 1975 بـ«الحرب المفروضة على لبنان» إذ كان يعتقد أن اللبنانيين لو تُركوا لأمرهم فلن يحتاجوا إلى من يجمعهم. كان يدعو إلى إلغاء خطوط التماس، ليلتقي الناس من دون أي حواجز. فالحرب برأيه ليست سبيلاً لحل المشكلات وأصرّ على البقاء في النبعة، رغم الخراب وكثافة القذائف التي كانت تتساقط من حوله، إذ كان يشعر بالمسؤولية للبقاء فيها والصمود مع الناس. أصدر كتابه «الإسلام ومنطق القوة» على ضوء الشموع آنذاك، ولكن اشتداد الحرب وإصابته بعارض صحي اضطراه إلى الخروج من النبعة والانتقال إلى منطقة شعبية أخرى، إلى حي السلم في الضاحية الجنوبية لبيروت، ثم انتقل إلى مسجد بئر العبد. حوّل السيد فضل الله كل أماكن العبادة التي أمّها إلى مراكز للتلاقي والحوار مع الناس رغم الأوضاع الأمنية الصعبة لم يترك المساجد، سواء في حي السلم، أو بئر العبد.

أسرة التآخي في النبعة


إلى أي مدى ساهم فكر السيد فضل الله في إحداث خرق إيجابي في المجتمع، ولا سيّما نحو تحقيق مشروع العدالة الاجتماعية؟
- جعل السيد فضل الله حقل القضايا الاجتماعية من أولوياته، فكان همّه رعاية الأيتام وحقهم في التعلم والرعاية الصحية وإيجاد البيئة الآمنة لهم في المؤسسات ولأسرهم أيضاً. كما حقوق المعوقين الذين ضاعت بعض مؤسساتهم في أتون الحرب اللبنانية، فالمؤسسات برأيه تشكل مساحة متقدمة لهم يتغلبون فيها على صعوبات الإعاقة، وتوفر حق التعلم والرعاية واختصاصات متعددة، إضافة إلى أن الخدمات الاجتماعية والصحية في المجتمع كانت حاجة ملحة، فأخذت من اهتمامات السيد التي تنوعت بين دينية مرجعية وثقافية مجتمعية إنسانية. لقد حاول السيد تأكيد فكره وقناعاته ورؤاه وتجسيدها على أرض الواقع، خاطب الناس بكل محبة، وتحسّس آلامهم ولامس حاجاتهم، وعاش تطلعاتهم وخفّف من معاناتهم.
لم يكن عقل السيد عقلاً مناطقياً ولا طائفياً ولا مذهبياً، بل كان يستوعب كل الناس وكل المحرومين والفقراء والأيتام، لا تحدّ تفكيره أرض ولا أي علاقات قرابة أو علاقات شخصية أو غيرها. كان تفكيره تفكيراً إنسانياً إيمانياً عندما فكّر في أكثر المناطق حرماناً في لبنان. صحيح أنه خطا خطوات عكس التيار الذي كان يهدف إلى بث الحقد والاقتتال بين اللبنانيين، فكان خطابه إنسانياً ينطلق من الإنسان ليصب في الإنسانية وبناء الإنسان وإنسانية الإنسان وعدم الفصل بين الإسلام والإنسان. ولذلك عُرف السيد بجملته الشهيرة «الحقيقة بنت الحوار»، وعدّ التحاور تلاقحاً معرفياً يغني الفكر ويقرّب المسافات ويقود إلى ترسيخ القناعات أو التخلي عنها عند الاقتناع بحجة الطرف الآخر، فكان يقول: «من حق كل شخص أن يكون له وجهة نظر وتحصيل الرأي الأفضل يكون عن طريق التفاهم، وتقديم الأدلة الداعمة لوجهة نظره»، ويؤكد من خلال تجربته «أنه لا يمكن أن يحرك الإنسان شيء مثل الحوار».
تتحقق العدالة من خلال سياسات وبرامج وقوانين تقلل من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين أفراد المجتمع وليس العكس


لذلك، فإننا نعدّ أن السيد تجاوز تحقيق العدالة الاجتماعية في لبنان ببناء المؤسسات التي تنوّعت تربوياً ورعائياً وصحياً واجتماعياً، إلى خرق إيجابي آخر للمجتمع اللبناني بطرح عدالة اجتماعية على صعيد الحوار مع الآخر والاعتراف بالآخر للانفتاح عليه ومناقشته وحواره على قاعدة الآية القرآنية «وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين». العدالة الاجتماعية التي توفر احترام رأي الإنسان للإنسان الآخر بما كان يمثله من قيمة إسلامية أساسية.

كيف ترجم السيد فضل الله مفهومه للعدالة الاجتماعية من خلال حركته ومؤسساته؟
- كان السيد يرى أن إنشاء المؤسسات يحوّل مفهوم العدالة الاجتماعية من معنى مجرد إلى معطيات محسوسة ويحوّل قيمة الأفراد إلى قيمة اجتماعية وإنسانية، وهذا يستدعي مساحات ومسافات ينبغي تعبيدها وتأمين الإمكانات وإزالة العقبات التي تعترض طريقها، فمن جمعية أسرة التآخي الخيرية في النبعة إلى جمعية المبرات الخيرية التي كان يراها السيد وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية لمشكلات اليتم والفقر، والتعليم، والبطالة والإعاقة، وضيق الأفق وهجرة الأدمغة وسائر القضايا الاجتماعية. وذلك ببناء مؤسسات تساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية، تبني القدرات والكفاءات، وتواكب الغرب في علومه، الأمر الذي يساعد في رفض الانصياع للواقع المفروض قهراً.

لم يكن عقله عقلاً مناطقياً ولا طائفياً ولا مذهبياً


أراد السيد لجمعية المبرات الخيرية أن تحاكي فكره، لا أن تكون مجرد مياتم تقليدية بل جمعية مرحبة تتحرك لتؤكد تفوّق إنساننا، كما كان يقول السيد «القلب مفتوح والبيت مفتوح»، إذ تفتح أبوابها أمام كل من يطلب خدمة، مؤكداً أنها ليست جمعية طائفية، ولا تربي الإنسان على أن ينغلق على طائفته بل تربيه على الانفتاح على الطوائف الأخرى، وعلى الإنسان الآخر، وعلى الوطن كله. فانطلقت المبرات من تفكير السيد الإيماني بأكثر المناطق حرماناً في لبنان، من بيروت إلى البقاع فالجنوب ثم جبيل وطرابلس.

هل يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية اليوم في ظل الواقع الصعب في مؤسسات الدولة؟
- كيف السبيل إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وزرع مفاهيم هذه العدالة كقيمة إنسانية في وعي الجيل الجديد، ونحن نعيش في وطن استشرى فيه الفساد، الذي سيترك آثاره على جيل نعمل على تربيته ورعايته وتعليمه؟ نحن في عصر تتبدل فيه القيم، ولكننا نسعى لنجترح الأساليب المتنوعة لنزرع الوعي في عقول أبنائنا عن الفساد الأخلاقي الذي هو سبب هلاك الأمة، بما يمثله من الفساد التعليمي والإعلامي، وكذلك الفساد الاقتصادي الذي نعاني منه في كل يوم داخل المؤسسات مهدداً استمراريتها.

طالب بالتوزيع العادل للثروات والموارد


إن تعطيل مؤسسات الدولة يشكل تحدياً لاستمرار المؤسسات الاجتماعية، ولكننا لن نجعل اليأس والإحباط يشعراننا بالهم، ولن نسمح أن يقودنا ذلك إلى فقدان الثقة بالله، خاصة أن المبرات تحظى بثقة عدد من أهل الخير في لبنان وخارجه لتستمر في عطاءاتها الإنسانية.

هل تستطيع «المبرات» الاستمرار في خدماتها رغم الوضع الاقتصادي الصعب؟
- إن جمعية المبرات الخيرية ومؤسسات المرجع فضل الله، حضنت منذ تأسيسها حتى اليوم 85145 يتيماً و11764 تلميذاً من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتحتضن 300 مسنّ داخلها و865 مسنّاً خارجها، لن تتخلى اليوم عن مسؤولياتها، ستبقى مسؤولة عن الحالات المأساوية للأيتام والمسنين والمعوقين في المجتمع، لأنها جزء من هذا المجتمع حتى لو كانت الدولة تساهم بما لا يسمن ولا يغني من جوع. كما لن نتخلى عن مسؤولياتنا في رفع مستوى التعليم للمستفيدين في مدارس ومعاهد المبرات الذين تجاوز عددهم الأربعة وعشرين ألفاً العام الماضي، ننتظر أعداداً أكبر للعام القادم، وذلك بأقساط لا تسد الكلفة مستعينين بمؤسسات المبرات الإنتاجية لسد العجز المادي المتراكم.