د. هشام نشابةفي ذكرى وفاة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، قدّس الله سرّه وأعزّ ذكره، وأمدّ ظلّه وتغمّده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته.
في هذه الأيام المباركة من شهر ذي الحجة، تحلّ ذكرى وفاة سيّد من سادة هذه الأمة وعالم من أجلّ علمائها. في هذه الذكرى، يطيب للمرء أن يتذكّر فضل العلم والعلماء، وأن يذكر هؤلاء بدورهم في عمران الأرض وقيام الحضارات.
إن للعلماء دوراً في توجيه الناس، جميع الناس، وفرصةً متميزة في هذا المجال، إذ هم يقفون على المنابر مرّة في الأسبوع على الأقل، يخاطبون عقول الناس وعواطفهم، ليأمروهم بما أمر الله عزّ وجل بالمعروف وينهون عن المنكر، عسى أن يستجيبوا لهم، والله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء، وهو على كل شيء قدير.
ولو شاء المؤرخون أن ينظروا في تاريخ الحضارات، وأن يختصروا كل حضارة بكلمات، لقالوا: إن حضارة الصين القديمة هي حضارة الحكمة، وحضارة اليونان القديمة هي الفلسفة، وحضارة الرومان هي حضارة القانون، وحضارة القرون الوسطى هي حضارة الحروب، والحضارة الحديثة هي حضارة التكنولوجيا، والحضارة المعاصرة هي حضارة الحاسوب، فما عسانا نختصر به الحضارة الإسلامية التي تقع بين الوسيط والحديث من هذه الحضارة.
أتجرّأ فأقول: إنها «حضارة العدل والإحسان، حضارة من يعمل خيراً يره، ومن يعمل شراً يره»، حضارة «لا تزر وازرة وزر أخرى»، ولأن العدل قاسٍ أحياناً، فقد جاء الإحسان ليخفف من هذه القسوة العادلة.
ولعل أعظم معاني «الإحسان» هو «المحبة»، فلا يحسن للناس إلا المحبّ لهم، و«المحبة» جوهر المسيحية وأعظم ما تدعو له في العلاقة بين الإنسان وأخيه، وبين الإنسان ومحيطه.
يمثل السيد محمد حسين فضل الله، في فكره وسلوكه، في نظري، «حضارة العدل والإحسان» وهو لذلك يمثل في عصرنا الحضارة الإسلامية بأنبل معانيها وجوهر رسالتها.
كان سماحته مجتهداً في الدين ومجتهداً في المذهب، توافرت في علمه شروط المجتهد. وكل مجتهد، سواء أصاب أو أخطأ، مُثاب على اجتهاده. لذلك فكل فتوى وكل رأي يصدران عنه يتبعهما دائماً قول المجتهد «والله أعلم». وبذلك يبقى باب الاجتهاد مفتوحاً. ونحن نعيش ظروفاً تتطور بسرعة مذهلة تجعل الاجتهاد ضرورة ملحّة.
أيقن السيد محمد حسين فضل الله، طيّب الله ثراه، أن قوة الأمة الإسلامية في وحدتها، وأنّ ضعفها في تفرّقها. أما الاختلاف فهو ضرورة، إذ إنه يشحذ الذهن ويوسّع الآفاق و«لا يفسد في الودّ قضية».
وقد عرف السيد ما كتبه المستشرقون عن الإسلام والمسلمين مما يثير الفتنة بينهم، لكنّني لم أسمعه يوماً يتناول الاستشراق بسوء. ذلك في اعتقادي، لأن بين المستشرقين علماء، بعضهم على الأقل، لذلك فهو يحترم علمهم، وإن أخذ عليهم المآخذ، وهو يحاسبهم على علمهم وليس على نواياهم. كان، قدس الله سره، عفيفاً، نظيف القلب والوجه واليد واللسان.
قصدته يوماً لأتزوّد من علمه، حاملاً معي مشروعاً لعلّه يظفر بتأييده. وكان هدف المشروع التعاون على كتابة سلسلة كتب لتدريس التاريخ في المدارس، لأن كتب التاريخ التي تُدرّس تدور حول تاريخ الحروب والصراعات الدموية، وهذه، وإن كانت موجودة في التاريخ، فلا يجوز أن يقتصر التاريخ على تدريسها، أو على جعلها المحور الأساس في علاقة الدول والشعوب.
فما كان من السيد بعد عرضي للموضوع، إلا أن استدعى بعض مستشاريه، وطلب إليهم متابعة الأمر. ولم تجر المتابعة لأسباب لا يتّسع المجال هنا لذكرها. لذلك حملت هذا المشروع إلى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حيث تبلور على يد فريق من الخبراء، فصدر كتاب «التاريخ العربي بلا حدود». غير أنّي ما زلت أتمنى أن تتولى نخبة من المؤرخين كتابة تاريخ حضاري يوحّد بين اللبنانيين في دراسة تاريخهم.
تناول السيد (دام فضله) في محاضراته قضايا العبادات والمعاملات، إن كان في لبنان أو في سوريا، لست مؤهلاً لأبدي الرأي في ما تفضّل به. ولكن ميزته البارزة في نظري، أنّه تناول أيضاً قضايا الحداثة، والمشكلات الأخلاقية التي تشغل الناس. وربما تطرّق الكثيرون من العلماء إلى هذه الأمور، ولكن الجرأة التي تصدّى بها السيد هي ما تلفت الانتباه.
فالسيد مرجعية رسمية لقضايا التحرّر والمقاومة وحقوق الإنسان وقضايا الشباب عموماً وأخلاقيات العلوم. ولو كان بيننا لسعينا لتوجيهه في قضايا «الذكاء الاصطناعي» وما تطرحه من مشكلات ترافق التطورات الخطيرة التي نطرحها.
كم نحن بحاجة لأمثال السيد محمد حسين فضل الله اليوم، وكم عظيمة مسؤولية العلماء في معالجة مشكلات هذا العصر.
نفتقد وجودك بيننا، يا سيد، بحرقة المشتاق، المقدّر لعلمك، والمحبّ لفكرك ولشخصك، وندعو الله عزّ وجل في ذكرى وفاتك أن يعوّض الأمّة بأمثالك، وأن يسكنك جنات النعيم، كثُر الطالب والمطلوب، ولكن الله أكثر، وهو على كل شيء قدير.