«لعلّ المشكلة في كثير من مواقعنا في الشرق أو في العالم الثالث كلّه، هي أننا مشغولون بمشكلة الظلم وكيف نتخفّف منه. لأننا نعيش الظلم في بيوتنا وأسواقنا ونوادينا ومواقع الحكم فينا، وفي مواقع قوة الاستكبار العالمي على الشعوب المستضعفة، لذلك نجد الناس مشغولين بمجاملة الظلم هنا وهناك» بيد أن العالم يقوم على أساس العدل «لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط» (الحديد: 25). فالعدل «حقيقة رسالية تشمل كل الرسالات التي بعث الله بها رسله». بهذه الكلمات افتتح العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله إحدى خطبه (كانون الثاني 2003)، مشيراً إلى أن هذا الأساس يمكن أن يؤدي إلى الاستقرار في العالم، حيث يلتقي الناس على مبدأ احترام بعضهم، من خلال الشريعة والالتزامات العقدية التي تربطهم. إذ إن «كلّ من يؤدّي للآخر حقّه، هو إنسان مؤمن، يعيش العدل قيمة في نفسه، وسلوكاً عمليّاً في حركته وواقعه». فما هي نظرة المرجع فضل الله إلى القوانين التي تُعدّ أحياناً سبيلاً لتحقيق العدالة؟ هل يرى مساحة للتلاقي بين التشريع الإسلامي وهذه القوانين؟ وماذا عن الأسس الفقهية التي ارتكز عليها في فتاويه المتعلّقة بالقوانين الوضعية والنظام العام؟ وكيف عمل على تحقيق مسار العدالة خلال مسيرته العلمية والاجتهادية؟

«القاعدة التي أراد تعالى للناس أن يسيروا عليها، هي العدل في كلّ شيء، على مستوى الحقوق والواجبات بين النّاس جميعاً، فحتى الأنبياء أكّدوا العدل مع الأمّة والناس، من خلال ما بذلوه من جهد وتجارب في سبيل إحقاق الحقّ، وتوعية الناس وتزكيتهم، بما يجعلهم ينفتحون على قيمة العدل في كلّ أوضاعهم وعلاقاتهم» لطالما أكد السيّد فضل الله أهمية العدل ودوره في سلامة المجتمعات الإنسانية، وخاصة أنّ جوهر العدل هو إحقاق الحق وإعطاء كل ذي حقّ حقّه، بعيداً من أي حسابات مذهبية وطائفية أو تعقيدات أو حتى اعتبارات.





علاقة عدل
يتحدث السيد فضل الله عن علاقة الإنسان بالإنسان الآخر، واصفاً إيّاها بأنها «علاقة عدل»، وذلك «لأن الله جعل لكلّ إنسان حقاً على الناس، فالحياة هي حركة حقوق متبادلة بين الناس، فليس لأحد حقّ مطلق، حتى الأنبياء، بل إنّ من حقهم على الناس أن يؤمنوا بهم ويستجيبوا لرسالتهم وينصرونهم، وللنّاس عليهم حقّ الدعوة والإرشاد والتوجيه والتزكية والتعليم وما إلى ذلك». ويؤكد السيد أهمية أن يعيش الإنسان العدل ويتنفّسه سلوكاً وتصرفاً، فلا يظلم نفسه بابتعاده عن الله، ولا يظلم زوجه وأولاده وجيرانه، ولا يعتدي على حقوق النّاس، بل أن يمارس «العدل عبر حمل الحقّ وتأكيده وحمايته والدّفاع عنه». فكونه عادل مع الله ونفسه ومع الناس، يعني أنّه «يعيش الدّين بروحه وتطبيقاته العملية، وليس مجرّد تنظير وتجريد وطقوس خالية من المعنى الجوهريّ الذي يلتزم العدل في كلّ حركة نخطوها في الدّنيا. فهل نحن العادلون يا ترى؟» يتساءل فضل الله.

الدين والقانون
أفاد السيد فضل الله في كتابه «الدين بين الأخلاق والقانون» (1966) أنّ الواقع التشريعي للدين الإسلامي الذي يحاول أن يجمع حياة الناس وينظّمها في إطار قانوني متين، لم يغفل عن أي جانب من جوانب الحياة التي تحتاج إلى تخطيط إلا ووضع لها شريعة، وسنّ لها قانوناً. إذ «لا بدّ أن يكون للمجتمع قانون يسير عليه، فينطلق النّاس من خلال الضوابط الشرعية والقانونية للحكم على الأشياء وعلى الناس» ووفقاً لفضل الله «كانت القوانين الجزئية والجنائية سبيل الدين للحدّ من جموح المنحرفين والمجرمين الذين لا يسكنون إلى عقيدة تردعهم أو أخلاق تصدّهم» وذلك انطلاقاً من أن الطبيعة الإنسانية تتراجع أمام الترغيب والترهيب. موضحاً أن «المجتمع عندما يحكمه القانون وتخضع له سلوكيات كل الناس، والعلاقات المجتمعية فيما بينهم، يشعر فيه الإنسان البريء بأنّه لا يتعرّض لأيّ سوء، لأن الناس عندما لا تحكم على الآخرين، ولا تتصرّف إلا بحجّة واضحة يمكن أن تثبت أمام القضاء والمحاكم، فإنّ البريء حينها لا يخاف». أما إذا كان المجتمع يأخذ بالظن والوهم ولا يرتكز إلى حجّة (..)، فإنّ الإنسان لا يعرف من أين تأتيه الرّياح، ولا يعرف من أين تهجم عليه إشاعة من شخص يحكم عليه من دون أساس»، من دون الارتكاز إلى قانون أو قاعدة، ويبقى بذلك المجتمع قلقاً، بدءاً من البيت، ووصولاً إلى المجتمع بشكل عام.
لا يجوز لأي قيادة أن تتنكر للقانون وتنحرف عن مسار العدل


ويحسم السيد النقاش بشأن علاقة الدين والدولة، قائلاً: «لا مشكلة من حيث المبدأ بين الدين والقانون إلا بمقدار ما تنحرف به بعض القوانين الوضعية عن قانون السماء وشريعة الله الهادية إلى بناء الإنسان، ونظّم أموره في جميع المجالات».
ويعدّ فضل الله القانون الإسلامي «حالة مدنية في الإنسان منطلقة من إرادة إلهية. والإرادة الإلهية ليست هي مزاج (رجال الدين)، وليست حتى مزاج النبي (ص) وإنما هي وحي الله الذي يطل على الإنسان، ويعرف ما يصلحه وما يفسده، فيشرع له»، ويشرح مفهومَي التشريع الإسلامي الذي «هو تشریع مدني يخاطب حياة الإنسان» والقانون الوضعي -القانون الذي وضعه الإنسان- الذي «يركز على الإنسان ككائن اجتماعي، مسؤول عن أعماله تجاه غيره وتجاه المجتمع، وتنتظم حياته الخاصة بمقدار ما ترتبط بسلامة المجتمع».
ويؤكد السيد أن القانون الوضعي هو جزء من الدين والتشريع الإسلامي «لأن الإسلام يختزن العبادة والعقيدة ويختزن القانون في داخله، صار الإسلام حياة مدنية أيضاً، باعتبار أنه يشتمل على القانون الذي ينظم للإنسان كل شؤون حياته العامة والخاصة»، إذ قد تنبثق بعض القوانين من الإسلام، وقد يكون هناك قانون غير إسلامي.
يفترض أن تكون القيادة الإسلامية، برأي السيد، «منضوية تحت القانون، هكذا منذ عصر الرسول (ص) ولا يجوز لأي قيادة أن تتنكر للقانون، وتنحرف عن مسار العدل».

مساحة للقاء
يقر السيد بإمكانية وجود مساحة للتلاقي بين الشريعة والقانون، في ما يتصل بفقه المعاملات، إذ أقر الفقه بشروط التراضي كما في عقود الشراكة، والتأجير... وتظل قاعدة الرضا قائمة في مجمل الحالات للدلالة على صحة العقد بين طرفين أو مجموعة أطراف.
وعند دراسة موضوع القضاء وما يتصل به من فقه وقوانين وضعية، يحرّم السيد مخالفة الشريعة في عمل القاضي أو المحامي، فلا يجوز للقاضي أن يحرّم ما أحل الله أو يبيح ما حرّمه، أما إذا كان القاضي دقيقاً في أحكامه، ولا يضيع حقوق الناس، وكان مراقباً لشريعة الله في كل ما يصدر من أحكام، فإنه لن يقوم بالتالي بعمل محرّم.

شدد على أهمية أن يعيش الإنسان العدل ويتنفّسه سلوكاً وتصرفاً


وهذا ما ينطبق بشكل أو بآخر على عمل المحامي، إذ يتوجب عليه التدقيق في ما يعرض عليه من قضايا ومدى موافقتها الأحكام الشرعية، فإذا كانت غير موافقة للشريعة، فلا تجوز له الموافقة على تبرئة المدان، أو إدانة البريء. ولا يجوز للمحامي في مطلق الأحوال تبرئة المجرم في الوقت الذي يتوجب عليه الدفاع عن الحق.

فتاوى النظام العام
يشرح عضو المكتب الشرعي في مؤسسة السيد فضل الله الشيخ حسين عبد الله الأسس التي أفتى بموجبها المرجع فضل الله الفتاوى التي تؤكد على وجوب الالتزام بالنظام العام، مشيراً إلى أن «الدليل العقلي هو الأساس في الفتوى، باعتبار أن الالتزام بالنظام هو أمر حسن والفوضى أمر قبيح ومرفوض، والإسلام يحكم بالدليل العقلي الذي يؤكد وجوب الالتزام بالنظام العام لمصلحة الناس».
ويضيف: «عندما يلتزم الإنسان بنظام السير ودفع الضرائب وفواتير الكهرباء، هذا يعود لمصلحة الناس، حتى إذا كان الإنسان يعيش في بلد غير إسلامي فمسألة التزام النظام العام هي واجبة لأن ذلك يرتبط بمصلحة الناس، وحتى بالنسبة إلى دفع الضرائب فالمواطن يدفع للدولة التي تؤمن حقوق الناس وتنظم مصالحها». ويعدد الشيخ عبد الله عدداً من فتاوى فضل الله التي ترتبط بالنظام العام، على سبيل المثال:
- يحرّم سرقة الكهرباء والمياه.
- يحرّم التزوير في المستندات الرسمية.
- يحرّم الكذب على الدولة من أجل الحصول على مساعدات.
- يحرّم مخالفة النظام والتعدي على المرافق العامة لأنه تعدٍ على حقوق الناس.
- يحرّم قيادة السيارة من دون رخصة.
- يجب دفع الضرائب والفواتير.
- يجب الالتزام بقانون السير.
- يجب المحافظة على البيئة.



مكتب القضاء الشرعي
أسّس السيد فضل الله مكتب القضاء الشرعي عام 1986 سعياً منه لعلاج المشكلات والخلافات التي تحدث داخل المجتمع سواء الأسرية والعائلية أو المالية أو العقارية أو غيرها، وقد اكتسب المكتب ثقة جعلته مقصداً من كل الطوائف والمذاهب وساهم في التخفيف من التوترات التي كانت تحدث غالباً بسبب بقاء النزاع لفترات طويلة، وقد أخذت أحكامه صفة الإلزام لكونها تأتي بناء على التزام طرفَي النزاع بمضمونها، إذ تُطلق بمبدأ العدالة بعيداً عن كل الاعتبارات التي قد تحصل. بعد وفاة السيد لا يزال المكتب مفتوحاً ويستقبل كل القضايا والمراجعين بنفس الروحية التي بُني عليها لحلّ المشكلات ضمن الموازين الشرعية للقضاء.