يفترض أن يكون الاستنتاج الكبير، بعد الانهيار الذي حصل على كلّ المستويات، أن لا بديل عن الدولة. هذا الاستنتاج يفترض أن تصل إليه الأحزاب في السلطة كما في المعارضة، والجمعيات القديمة والحديثة، إضافة إلى المؤسسات الدينية والقطاع الخاص وما يسمى المجتمع الدولي. ورغم أن غالبية الأحزاب التي كانت في السلطة تعتبر مسؤولة، بشكل أو بآخر، عن انهيار الدولة، وبينها بعض الأحزاب التي تعتبر بناء الدولة فكرتها المركزية، إلا أنّ معظم هؤلاء فهموا أن تحقيق هدف بناء الدولة، يعني وصولهم إلى السلطة وتوظيف من يخصهم في أجهزتها وإداراتها، وتسخير مواردها لتمويل حملاتهم الانتخابية وتنفيع المحاسيب! أما الجمعيات التي نشطت قبل الانهيار أو بسببه، وعلى هامش النزاعات الطائفية والرئاسية والسلطويّة وضعف الدولة واتهامها بالفساد، بدعم أجنبي أو من بعض القوى الاقتصادية المسيطرة التي كانت تدعم في معظمها الأحزاب التقليدية المسيطرة أيضاً… فقد بات حالها في النتيجة مشابهاً لحال الأحزاب التقليدية. معظم هذه الجمعيات التي حسبت في بعض الأوقات أنها قد تشكل بديلاً عن الدولة في تأمين الخدمات والمساعدات أو إنشاء وإدارة مشاريع صغيرة نسبياً، أضرّت بسمعتها في المجتمع بعدما تحوّلت إلى ما يشبه القطاع الخاص الذي يبغي الربح! وقد توهّم بعضها أيضاً أن انهيار الدولة وأجهزتها وإداراتها، على وقع اتهام الأحزاب الممسكة بالسلطة بالفساد، هو من مصلحة قوى المجتمع المدني، إن لجهة الحصول على التمويل الخارجي (والداخلي)، أو لناحية منافسة الأحزاب على شعبيتها، تمهيداً لطرح نفسها كبديل، ولا سيما في جولات الانتخابات النيابية الأخيرة. هذه الأوهام لا تزال حية على ما يبدو بسبب زيادة فرص التمويل، إلا أنها انعدمت لناحية زيادة شعبيتها، لهذا السبب نفسه، ولا سيما بعد الانهيار وتلقّي الطبقة الوسطى ضربة كبيرة غير مسبوقة مع انهيار العملة الوطنية والرواتب وودائعها (تعويضات ومدخرات) في المصارف. خلق هذا التمويل الزائد لجمعيات المجتمع المدني على أنواعها طبقة جديدة من الموظفين الذين يتقاضون رواتب ومخصصات بالعملات الصعبة، بخلاف الطبقة التي كانت «وسطى» وباتت مسحوقة، ولا تزال تتقاضى رواتبها بالليرة اللبنانية المنهارة. خلقت هذه الجمعيات زبائنيّة صغيرة في المجتمع، شبيهة بتلك التي خلقتها الأحزاب بحركة أموال مساعداتها. كما خلق كل ذلك نفوراً وشرخاً، قد يتسبب بعزل هذه الفئة من الـ«ان جي اوز» عن المجتمع، عاجلاً أم آجلاً. وهذا ما يشكل معوقاً أساسياً لأي نشاط تغييري ولأي إسهام حقيقي من قوى المجتمع في إعادة بناء الدولة، لأن أموال هذه المنظمات ومعظم مشاريعها شبه الوهمية (بالنسبة إلى المجتمع) أسهمت، ليس في هدر مال المساعدات فقط، بل في هدر المعنى الأساسي لمبرر وجودها كقوة ثالثة بين الدولة والقطاع الخاص، والمدافع الحقيقي عن مصالح المجتمع ومقوّمات الحياة في آن. كما أهدرت معنى القضايا التي تحملها من حماية البيئة إلى حماية سلسلة حقوق الإنسان على أنواعها، إضافة إلى الفئات الاجتماعية المختلفة من نساء وأطفال ومعوقين ومودعين (أخيراً)، بالإضافة طبعاً إلى قضايا اللجوء وتمويلاتها وبرامجها التي تحتاج إلى مساحة خاصة لمناقشتها مع حقوق المثليين… الخبعد الانهيار يفترض إعادة النظر في كل شيء، ولا سيما من جانب ما يسمى الحركات الاجتماعية المتنوّعة الاهتمامات والقضايا، وتصحيح المسار الانهياري لعلاقتها مع المجتمع هي أيضاً. ولهذا التصحيح شروطه المتعددة التي تبدأ بإعادة النظر بعلاقاتها مع نفسها وإعادة تقييم دورها وأهدافها، أو بعلاقتها مع المجتمع الذي ادّعت تمثيله قبل أن تصل إلى حالة العداء، أو بعلاقتها مع الجهات المانحة وبرامجها. وهذا الموضوع الأخير يحتاج إلى تفكيك ونقاش صريح، إذ يعتبر أيضاً مساهماً رئيسياً، بشكل مباشر أو غير مباشر، في هدر المال والمعنى والثقة. فغالباً ما موّلت الجهات المانحة مشاريع تتعارض - أو لا تتوافق - مع الأجندات الوطنية التي يفترض أن تحملها المنظمات بحسب برامجها وأولوياتها وحاجاتها الوطنية. وهذا موضوع مزمن نجحت الجهات المانحة في فرضه على معظم المنظمات من دون نقاش، وسلّمته إلى وسطاء ومحترفي تقديم مشاريع للتمويل بعدما درّبتهم بداية على السير في أجنداتها، وخلقت معهم زبائنيّة وتبعية معينة، يسميها البعض تخصصات، من نوع آخر، منفصلة تماماً عن متطلبات المجتمعات الحقيقية. وهنا حصلت عملية تواطؤ غير مباشرة تحتاج إلى إعادة تفكيك. فليس الفساد هو السبب الحاسم لنقل الدول المانحة بعض تمويلاتها من الدول إلى الجمعيات. لعل موضوع شح التمويل هو السبب أيضاً، إضافة إلى كشف فساد السلطات المحلية والجمعيات أيضاً، وعدم مساءلة الجمعيات الصغيرة الدول الكبرى حول ارتكاباتها الكبيرة. فالدول الصناعية الكبرى التي تعتبر المساهم الأكبر في المساعدات تسببت، من خلال تقدمها وصناعاتها الثقيلة وانبعاثاتها… في تغير المناخ وفي الكثير من الكوارث المناخية التي لا تستطيع الدول النامية تحمّل تبعاتها. وبدل أن تدفع تعويضات كبيرة عن تلك الكوارث، ترضي الجمعيات الصغيرة بمشاريع صغيرة مع ادعاءات ودعايات كبيرة تغطي بها ارتكاباتها بأرخص الأثمان… ثم تعود وتضع يدها (عبر شركاتها) على أهم الموارد لهذه البلدان (نفط وغاز ومياه ومعادن وأتربة نادرة وفضاء…)، تأخذ منها الحصة الأكبر وتترك الفتات للفاسدين والتلوث للناس. فمن سيحاول وضع حدٍّ لهذه الدائرة الجهنمية التي كانت في أساس الانهيار؟
لقد تمّ هدر القيم والقضايا والأفكار والطموحات والآمال… وتحلّلت الثقة بين المجتمع والجمعيات، كما بين المجتمع والسلطة وأحزابها. كما بات المجتمع نفسه بين نارين، الفساد من جهة واليأس أو الهجرة من جهة أخرى. فأين المفرّ بغير العودة إلى قيم العمل الاجتماعي التطوعي المتواضع، وإعادة إنتاج قيم اجتماعية وأخلاقية جديدة تواكب كوارث العصر وهموم المستقبل؟