على أن السجال كله لم يعد ذا فائدة عندما أدلى حزب الله بكلمة السر.
خلافاً لموقفه في كانون الأول 2022 عندما رجّح كفة اجتماع حكومة تصريف الأعمال عى كفة حليفه آنذاك التيار الوطني الحر، وكان إيذاناً بتصدّع علاقتهما قبل انهيارها لاحقاً، مَالَ حزب الله هذه المرة إلى الوجهة المعاكسة: أعطى إشارة صريحة إلى أكثر من رفضه بقاء سلامة في منصبه وتالياً اجتماع مجلس الوزراء، هي أنه الناظم الفعلي للتوازن الداخلي في مرحلة الشغور الرئاسي، كما إلى مرجعيته في تقدير ما يقتضي أن يحصل أو لا يحصل. ليس تخلياً عن حكومة ميقاتي التي يحتاج إلى دورها في المرحلة الانتقالية الحالية طالت أو قصرت، دونما أن يُفسَّر رفضه تعيينها حاكماً خلفاً أنه يطوي صفحة الخلاف مع التيار الوطني الحر ورئيسه النائب جبران باسيل، بعدما أضحت العودة عن هذا الخلاف تحتاج إلى جهد شاق لرأب صدع الثقة المفقودة. في الوقت نفسه دلّ الحزب على مكامن قوته في نظام متهالك بالكاد يلتقط أنفاسه:
أولها، أنه هو الذي يملك حق تقدير اجتماع مجلس الوزراء أو عدم اجتماعه. بعدما انتقلت إلى حكومة ميقاتي، المستقيلة، صلاحيات رئيس الجمهورية بشغور المنصب، أول شروط حزب الله لإكمال النصاب الدستوري لالتئامها اطّلاعه سلفاً على جدول أعمال الجلسة، وتحقّقه من مطابقتها الأسباب الواجبة للاجتماع بينما تُصرّف الأعمال. منذ اجتماعها الأول قبل ستة أشهر لم تعقد اجتماعاً لم يوافق عليه الحزب أو تغيّب عنه وزراؤه. لعل عِبرة ما حصل مذَّاك ولم يَبن إلا تدريجاً، أن حزب الله انتزع واقعياً من حكومة ميقاتي ما آل إليها من صلاحيات دستورية بعد نهاية ولاية الرئيس ميشال عون. فوق ذلك أمسك بالصلاحيات الدستورية لرئيسها بالذات سواء بدعوته إلى جلسات حكومته أو بوضع جدول الأعمال. كلتا الصلاحيتين الدستوريتين، قرار موعد الجلسة وإعداد جدول الأعمال، صارتا ملك حزب الله وحده.
ثانيها، تكمن فيه المفارقة. بالتأكيد يُفترض بالأفرقاء جميعاً التخلص أخيراً من سلامة، عند حماته بعدما بات عبئاً عليهم كما كارهيه الذين لا يحتاجون إلى دليل وبرهان ضده. استمراره ليس ضد القانون فحسب بل ضد الطبيعة حتى، خصوصاً بإزاء الأبواب الموصدة حيال إيجاد طريقة تبقيه حيث هو، في مصرف لبنان الحصانة الوحيدة التي يظل يحتاج إليها في كل حين في الداخل ومع الخارج. أكثر مَن تنطبق عليه عبارة المستغنى عنهم هو سلامة. لذا يرفض حزب الله استمراره في منصبه بعد نهاية ولايته. أما المفارقة الفعلية في الموقف السلبي منه - وهذا أضعف الإيمان - فتكمن في أن في مصرف لبنان مَن يقتضي أن يُستغنى عنه أخيراً، فيما في الاستحقاق الرئاسي ثمة مَن لا يُستغنى عنه للوصول إلى انتخاب رئيس للجمهورية هو مرشح الحزب والثنائي الشيعي سليمان فرنجية.
بات سلامة من الماضي في انتظار مَن يُسيِّر الحاضر
مغزى المفارقة هذه يقيم في مصدر قوة حزب الله التي تجعله يملك زمام مرجعية ما يأذن به وما لا يأذن، ما يوافق على حصوله أو يقف في طريقه، ما يعطيه بيد ويأخذه بأخرى.
ثالثها، لم يعد خافياً أن حزب الله عزم منذ نتائج انتخابات 2022، وقد أشعرته بالخيبة عندما أخفق في الحصول على غالبية نيابية مرجّحة، على مواجهة خصومه في النظام من داخل النظام، مشيحاً الأنظار عن سلاحه كما لو أنه أضحى ثانوياً في اللعبة الداخلية إلا أنه الأصل في مقاومة إسرائيل. بات أكثر من مفهوم استنتاج ضراوة إصراره على الإمساك بالنواب الشيعة الـ27 جميعاً في مجلس النواب كي يتحولوا إلى المانع الحقيقي في الوصول إلى أي استحقاق لا يستجيب إرادته. بعد تجربة عام 2006 التي دلّته على قوة الثنائي الشيعي في حكومات لا يملك غالبيتها فلم يسمح بعد ذاك بوزير شيعي من غير صفوفه، كما في ما مضى في حكومات الرئيس رفيق الحريري، امتلك النصاب الميثاقي في حكومات ما بعد ذلك التاريخ. ليست الطريقة التي يدير بها الاستحقاق الرئاسي كما شروطه الواجبة على حكومة ميقاتي كما على أي حكومة في ما بعد، إلا الخطوة ما قبل الأخيرة المفضية إلى تحوله شريكاً دستورياً فعلياً في النص لا بالممارسة فحسب.