مسارعة رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية اللواء أهارون حاليفا إلى الرد على كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أول من أمس، مؤشر واضح على أن قادة الكيان، الأمنيين والسياسيين، كانوا في حال من الترقب لما سيدلي به من مواقف من ضمّ العدو الجزء الشمالي اللبناني من قرية الغجر، ومن قضية خيمة حزب الله ومجمل الوضع على الحدود مع فلسطين المحتلة. كما أنهم يتعاملون مع مواقف الأمين العام لحزب الله على أنها بوصلة التطورات، ومعطى تأسيسي يسمح بتقليص هوامش الأخطاء التي أكثروا من ارتكابها في المرحلة الأخيرة. وبالتالي، تحديد ما يمكن وما لا يمكن الرهان عليه في هذا المجال.المؤشر الأهم في موقف رئيس الاستخبارات يكمن في تأكيده أن إسرائيل «ستفعل كل ما هو مطلوب للمحافظة على الهدوء في الحدود الشمالية»، في موقف يعكس السياسة الرسمية للمنظومتين الأمنية والسياسية بتجنب أي صدام عسكري مع حزب الله. ومع أن حاليفا مهَّد لهذا الإعلان بدعوة نصر الله الى أن «لا يخطئ»، إلا أن الممارسة العملية لجيش العدو، مبادرة وارتداعاً، تظهر بشكل ملموس حرص العدو نفسه على ألّا يخطئ في خطواته. ومن أبرز تجلّيات ذلك، في الأيام الأخيرة، إحجامه عن إزالة خيمة حزب الله أو التعرّض لها لمعرفته بأن ذلك سيدفع حزب الله إلى الردّ بما يتناسب.
يفرض موقف قيادة العدو (أولوية الحفاظ على الهدوء) قيوداً على الأداء الإسرائيلي لتجنب أيّ خطوات عملياتية تدفع حزب الله إلى ردّ يضع إسرائيل أمام نتيجتين: إما الامتناع عن ردّ مضادّ ما يعمّق مردوعيتها، أو التورط في سيناريو مكلف جداً لجبهتها الداخلية.
بهذا الموقف، عمد رئيس الاستخبارات العسكرية الى الترويج لمفهوم يهدف الى تبرير ارتداع الجيش أمام حزب الله وتقديم ذلك أمام الرأي العام الإسرائيلي على أنه تفويت فرصة على حزب الله! مع علم الإسرائيليين أن أداء الحزب وموقف قيادته أثبتا بما لا يدع مجالاً للشك حرصه أيضاً على عدم تفجير الوضع على الحدود شرط بعدم السماح لإسرائيل باستغلال ذلك لتكريس إعادة احتلالها للجزء الشمالي اللبناني من الغجر أو تمرير أي اعتداء آخر.
من الناحية العملياتية، يُذكّر موقف حاليفا بتوجهات القيادات السياسية، خلال فترة احتلال الحزام الأمني، حول أولوية منع استهداف المستوطنات الشمالية بالصواريخ، ما حوَّله حزب الله الى قيد على صانع القرار السياسي والأمني عبر أداء عملياتي مدروس نجح في تقييد اعتداءات جيش العدو، وفرض معادلة حمت العمق الاستراتيجي للمقاومة، والمدنيين والمنشآت اللبنانية، وأثمرت هذه الاستراتيجية تحرير العام 2000.
في هذا السياق، فإن أولوية العدو بالحفاظ على الهدوء على الحدود، توفر هامشاً لحزب الله يمكن توظيفه في مواجهة العدوان في منطقة الغجر وفي أي منطقة أخرى، كونه يستند الى معادلة ردع فعالة لم يعد يتردد مسؤولو العدو وخبراؤه في الإقرار بها.
ومع أن حاليفا حاول الترويج بأن إسرائيل على دراية بتقديرات حزب الله وخياراته وأهدافه، بقوله إن «شعبة الاستخبارات تتابع بيقظة مخططات» الحزب، إلا أن هذه المعرفة - على افتراض أنه لا تشوبها تقديرات خاطئة - لا تُغيّر من فعالية معادلات القوة، ومن أن مآل التطورات ونتائجها مرتبطة بتصميم المقاومة وحكمتها وبفهمها العميق للفرص التي نتجت من تقاطع مجموعة من الديناميات الداخلية (الإسرائيلية) والإقليمية والدولية، وأضافت عناصر إيجابية الى المشهد ثبت أن المقاومة تملك الإرادة والقدرة التي تؤهّلها لاستثمارها.
في المقابل، يرى جيش العدو في هذه الرؤية والخيارات التي تنبثق منها، بمثابة «سير على الحافة»، وأن «حزب الله لا يريد الذهاب نحو حرب شاملة، لكنه مستعد للمخاطرة بأيام قتالية» متجاهلين أن هذا الخيار يتعارض مع موقف حزب الله الذي سبق أن حذَّر العدو من المغامرة به. مع ذلك، لا يعني هذا التقدير أن جيش العدو مقتنع بأن حزب الله يدفع نحو هذا السيناريو. لكنه يدرك أن لدى الحزب تصميماً إزاء مجموعة من الثوابت، من بينها مواجهة أي محاولة لإعادة تكريس احتلال أراضٍ لبنانية مهما كان حجمها.
يدرك العدوّ أن لدى المقاومة تصميماً على مواجهة أي محاولة لإعادة تكريس احتلال أراضٍ لبنانية مهما كان حجمها


ومع أن العدو يهدف من خلال إثارة هذا السيناريو والإيحاء بقربه، الى رفع مستوى القلق لدى المقاومة وبيئتها، إلا أن مؤسسات التقدير والقرار في كيان العدو، وعلى ألسنة الخبراء أيضاً، أشبعت هذا السيناريو درساً واستشرافاً وخلصت أيضاً الى أنه محفوف بمخاطر التصاعد نحو حرب شاملة ستشكل خطراً على الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
والتزاماً بمبدأ حاكم للسياسة الدعائية الإسرائيلية، كان وصف رئيس الاستخبارات العسكرية أداء حزب الله بـ«الاستفزازي»، متجاهلاً خروقات جيشه في البر والبحر والجو. لكن يبدو أن درجة «الحساسية» عالية جداً في الكيان من الرسائل الكامنة في أسلوب مخاطبة السيد نصر الله لقادة العدو الى حدّ الاستهزاء بهم أحياناً، كجزء من حرب نفسية ثبت أنها مؤثرة جداً في وعي قادته وخبرائه والرأي العام. على هذه الخلفية، أتى وصف صحيفة «يديعوت أحرونوت» نصر الله بـ«المتكبر»، في تعبير يعكس القلق من الثقة التي يوليها للمقاومة التي يقودها وللشعب الذي يحتضنها، وما يؤشر إليه من إمكانية المبادرة الى خيارات، كثيراً ما فاجأت تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية، من دون إغفال حقيقة أنه في أدبيات المقاومة وما تسالم عليه العقلاء، «التكبّر» على المحتلين والمستعمرين صفة طيبة، ومطلوبة في الكثير من محطات الصراع وسياقاته.