فور وقف العمليات العسكرية لعدوان تموز، في 14 آب 2006، بادر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى الاجتماع بالعماد ميشال عون، حتى قبل انعقاد مجلس شورى الحزب لتقييم العدوان ونتائجه. ما دار في ذلك اللقاء سيبقى واحداً من أسرار الرجلين، لكنّ مطّلعين، بينهم أعضاء في الشورى، يرددون دائماً أن السيد كان مطمئناً ومزهوّاً بتلك الجلسة مقدار اطمئنانه وزهوه بخروج حزبه منتصراً في تلك الحرب. بعدها، ظهر مصطلح جديد في الحياة السياسية اللبنانية هو «الثقة». كان تفاهم مار مخايل عبارة عن بضعة بنود لم يكبّد جمهورا الطرفين - وحتى قيادتاهما - عناء قراءتها أكثر من مرة أفقية سريعة، فيما أخذت الثقة المعمّدة بالدم تحمي وتبني التفاهم بين قوتين عاطفيتين جداً: إحداهما محكومة بالتقارير الأمنية والمشاورات والواقعية الشديدة، والأخرى محكومة بالأحلام اللبنانية التاريخية والانفعال الدائم؛ إحداهما تحسن إخفاء قلقها الثابت، والأخرى تجاهر بصخب هائل بهذا القلق؛ إحداهما تتعامل مع مرور الوقت باعتباره لمصلحتها، والأخرى تلفّ وتدور في عقدة الوقت الذي يعمل ضدها. ورغم مراكمة كل منهما، على مدى خمسة عشر عاماً، الاستياء من الآخر لأسباب صغيرة وكبيرة، تافهة وجدية، إلا أن حجم الثقة المتراكمة كان أكبر من كل شيء آخر، بما في ذلك ملاحظات الحلفاء الآخرين وغيرتهم والعقوبات وحسابات الربح والخسارة.رغم الشكوى العونية الدائمة من أن الحزب لا يضع قوته الداخلية والإقليمية في تصرّف «بناء الدولة» وشكوى الحزب الدائمة من أخطاء العونيين في التعيينات والمعارك الصغيرة التي تخسّرهم الحرب (معمل سلعاتا مثلاً) أو تظهرهم بمظهر المسؤول عن الفشل، بقيت تلك الثقة حتى صيف العام الماضي أقوى من كل الملاحظات والمآخذ، ومن الشعور العونيّ العام بالخذلان. فالحزب الخارج من غدر تلو غدر، محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً، من الاتفاق الرباعي إلى حرب تموز إلى اتفاق الدوحة، كان يجد في هذه الثقة ما هو أهم من أي شيء آخر. وكذلك الأمر بالنسبة إلى التيار الذي جرّب كل الآخرين في الداخل والخارج ليصل إلى خلاصات جذرية بشأنهم، إذ كان يجد هو الآخر في هذه الثقة حصناً أخيراً. بين ثقة الخارجية الأميركية به وثقة جزب الله، اختار العماد عون ثقة الأخير. وحين خيّرت السفيرة الأميركية رئيس التيار جبران باسيل، بعد ذلك بخمسة عشر عاماً، بين ثقة إدارتها به وثقته بخيارات عمّه التي باتت خياراته الاستراتيجية هو أيضاً، قال لها بوضوح إنه لا يثق بسياسة بلادها في المنطقة والعالم، فيما يثق بالحزب.
عندما سُئل الأمين العام للحزب مراراً وتكراراً في اجتماعات «الشورى» ولقاءات أخرى عن مواقف باسيل ونواياه، ضرب على صدره مردداً: «ثقوا». ولدى سؤال عون وباسيل مراراً وتكراراً آلاف المرات عن مواقف الحزب ونواياه، أجابا بابتسامة واثقة جداً بحليفهما. بنى الاثنان علاقة سياسية على الثقة قبل المصالح وحسابات الربح والخسارة وهموم الطوائف وهواجسها. واستحقاقاً تلو الآخر، بدا في الاستراتيجيا - في السياسة بمفهومها الواسع - أن هذه الثقة في محلها.
قبل نحو عام، اهتزت هذه الثقة تحت وقع الضربات المتتالية المتراكمة. وطوال عام، دخل كثيرون بقدراتهم المعروفة على خط الاستثمار في الثقة المهزوزة. لكن أساس الحوار المتقدم الذي بدأ أخيراً بين قيادتَي الحزب والتيار هو إعادة بناء حجر الزاوية في تفاهمهما: «يثق أو لا يثق أحدنا بالآخر، و... بحرصه على الآخر كما يحرص على نفسه». وإذا كانت الإجابة الأولية محسومة، فإن إعادة تكوين هذه الثقة وإيجاد أرضية مشتركة لها في أكثر من ملف هو المطلوب اليوم. يريد التيار أن يثق بتواضع الحزب مجدداً واحترامه لمنطق الشراكة الذي خاضا معاً معارك ضارية لتكريسه، وبتفهم الحزب لهواجسه المستقبلية وقلقه الدائم الذي يعبّر عنه بالمطالبة باللامركزية الإدارية المالية تارة، والصندوق الائتماني طوراً أو الاثنين معاً. ويريد الحزب، من جهته، أن يثق بتحديد التيار جيداً لخصومه الحقيقيين في الداخل وكيفية مواصلة المعركة السياسية في الداخل والخارج وخلفية مقاربة الاستحقاقات.
الفرصة جدية لاستعادة التحالف بين الطرفين بناءً على حسابات عقلانية هادئة


ما قاله الرئيس عون، عبر الممارسة سابقاً وتشي ممارسة باسيل بقناعته به أيضاً، أنهم يختارون الثقة المتبادلة مع الحزب إذا خيّروا بينها وبين ثقة هذه الإدارة أو تلك أو السفارة أو الماكينة الإعلامية أو الإعلامي المتحذلق أو الرأي العام الموتور أو بعض أصحاب المصالح. أطلق كل من الحزب والتيار على هذه الثقة المتبادلة وصف التحالف الاستراتيجيّ، وبدا مع الوقت أن تفاهمهما أصغر بكثير من هذا التحالف الذي يملك اليوم فرصة جدية للمضيّ قدماً بدفع مبنيّ على حسابات عقلانية هادئة، بدل الحماسة والانفعال والعاطفة فقط، بحيث يربح الحزب ثقة باسيل وجمهوره لا باسيل فقط، فيما يحتفظ باسيل بثقة السيد ويربح ثقة الرأي العام أيضاً.