«لا يمكن أن يكون عندنا حل آخر. هذا هو لبنان. لا أحد نجح في تغييره أو يقدر على ذلك. كلّ ما جرّبناه يقول إن لبنان لن يتغيّر».هذه خلاصات يردّدها معظم من يتولّون المسؤولية في هذه البلاد. طبعاً، لا يعني توصيفهم هذا أنهم غير راغبين في التغيير. لكن المؤكد أن فكرتهم جميعاً عن التغيير لا تتجاوز تعديل كراسي السلطة وتغيير شاغليها.
أصحاب هذه النظرة هم أنفسهم من يطلق على رياض سلامة صفات «الشاطر» و«ابن السوق» و«الثعلب» الذي يمكنه ملاعبة الشياطين. وهؤلاء، عندما جهدوا للتمديد له ولاية إضافية، كانوا يستخدمون هذه الصفات في معرض التأكيد على نظريّتهم، بأن من يتولّى مهمة حاكمية مصرف لبنان يجب أن يكون محتالاً وقويّاً وقادراً على اللعب مع أبناء الكار.
وبعدما تبيّن أنّ من غير الممكن إبقاء سلامة في منصبه، انتقل هؤلاء الى الحديث عن صفات الآخرين. وأمامهم، الآن، أربعة نواب للحاكم، قالوا إنهم «أوادم ومعتّرون، ليسوا على قدر المسؤولية، فكيف لهم أن يواجهوا حيتان السوق؟». عملياً، يقول لنا السياسيون إن على من يتولى مهمّة في قيادة مصرف لبنان أن يكون محتالاً، عارفاً بالقوانين، ليس لاحترامها بل لإجادة اختراقها وتجاوزها. وكي لا نطيل في الشرح، فإن كل من يستخدم هذه اللغة في توصيف الحاكم أو نوابه، إنما يقول لنا: نحن في السلطة، نحتاج الى حاكم يكون شريكاً لنا في إدارة استنسابية ومصلحية للمال العام.
بهذا المعنى، يحقّ، لكثيرين التدقيق في مواصفات سلامة قبل منحه العلامة المناسبة. من يقولون إنه «شاطر» و«ابن سوق» يعرفون أنه بدّد مليارات الدولارات العائدة، أولاً وأخيراً، إما الى الدولة أو الى مواطنين، وأنه كان شريكاً مباشراً في كل عمليات التبديد، سواء التي حصلت مباشرة من خلال موقعه وأدوات عمله، أو بالتشارك مع الحكام الطائفيين. وبالتالي، فإن من يتمسك بهذه الصفات ليس سوى مستفيد من جرائم ارتكبها سلامة عن سابق تصوّر وتصميم. ولا يحقّ له، تحت أي ظرف، ادعاء أنه كان ينفذ ما تطلبه الحكومة منه. وهو يعلم علم اليقين أنّه ليس بإمكان الحكومة أن تفرض عليه أمراً، وإلا لما كانت له الحصانة الخاصة التي يوفرها له الدستور والقانون الخاص بعمل مصرف لبنان، ولما كان يتمتّع بهامش من الصلاحيات التي تمنع على أي مسؤول في بقية السلطات أن يمدّ يده الى عمله.
اليوم، تنتهي ولاية سلامة. وعندما يقال إن من سيتولّون المهمة بعده لن يقدروا على تغيير الواقع، فإن المقصود بأنه ممنوع على أحد، بمن فيهم نواب الحاكم الأربعة، القيام بأيّ خطوات تكسر النمط الذي ساد خلال ولايات سلامة المتتالية. وهذا المنع، موجود في عقل كل المتعاقبين على موقع القرار في البلاد. وهو منع، يراد منه تكبيل كلّ موظف يمكنه القيام بما هو مختلف أو بما هو أفضل. والأهم، هنا، أن النواب الأربعة، ولو عيّنتهم سلطة سياسية عمياء، إلا أنهم عُيّنوا تحت الضغط، أي جرى اختيارهم بطريقة أكثر احترافية نتيجة المناخات التي سادت البلاد إثر 17 تشرين عام 2019. لكنّ أهل الحكم كانوا يراهنون على بقاء سلامة، وعلى دوره في تهميش هؤلاء، وفي جعلهم أقرب الى شركاء صامتين، وهو الذي تجاوز كل ملاحظاتهم وتحفّظاتهم، وكان يلجأ الى أدواته إياها في إدارة الأمور، وكلما ناقشه أحد في خطوة ناقصة، كان يرفع الصوت بأنه يدير الأزمة بقوانينها وليس بقوانين البلاد المستقرة. وهي حيلة لطالما لجأ إليها سلامة الذي قال، قبل سنوات، إنه لو كان حاكماً للمصرف المركزي في بلد كسويسرا ما كان ليسمح لسياسي أو رجل أعمال بأن يتصل به هاتفياً أو حتى أن يتصل بمكتبه. وهو الذي يبرّر كل أفعاله بأنه كان ينظّم الأمور في بلاد تحكمها الفوضى. لكن سلامة، ملك العجائب، لم يشعر يوماً بأنه مراقَب أو تحت النظر، حتى عندما مرّ على الحاكمية نائب أول مثل أحمد جشي، فإن سلامة كان يلوم من وفّر له التغطية لتعيينه، وعمل على تهميشه، قبل أن تطيح به السلطة السياسية. ويومها، قال سلامة ومعه المسؤولون عن إطاحة جشي، إن الرجل «آدمي، لكنه لا يصلح لهذه المهمّة في بلد مثل لبنان».
بأيدي نواب الحاكم أسلحة بسيطة لكنها فعالة إذا أُحسن استخدامها وأهمّها كشف الوقائع القاسية أمام الناس


عملياً، ردّد اللبنانيون جميعاً كل أنواع النكات والتعليقات الكوميدية على أحوالنا، وقالوا إن صفات الشطارة والثعلبة والتقلّب والنجاة والقفز فوق القواعد والهبوط واقفاً، ما هي سوى صفات تشبه صفات الحكام الذين تعاقبوا على جَلدنا، بإرادتنا أو غصباً عنّا منذ قيام هذا البلد، وهي صفات تعني، باختصار، أنهم يريدون لنا أن نعيش دوماً تحت رحمة حفنة من النصّابين، وأن السيَر الذاتية لا تصلح ما لم تكن حافلة بكل أنواع الاحتيال والتجاوز والإفلات من العقاب.
اليوم، يبدأ لبنان رحلة جديدة. وإذا كان من غير الممكن رفع سقف التوقعات إزاء ما يمكن للفريق الجديد في مصرف لبنان تحقيقه، إلا أن من الأفضل لأعضاء هذا الفريق، ومن الأفضل لنا، كمواطنين، أن لا نسمع من السياسيين وكل إعلامهم أيّ إشادة بهم، لأن في ذلك ما يثير الريبة، بل على العكس، فإن كل تحامل على هؤلاء، ومحاولة تحميلهم مسؤولية كل المصاعب المتوقعة، والمطالبة برحيلهم، والإسراع في الحكم عليهم ربطاً بقواعد العمل التي كانت قائمة أيام سلامة، هو الأمر الحسن.
أما سلاحهم الأمضى في مواجهة كل حملة الشيطنة المتوقعة، فهو بالصمود والصبر قليلاً، وبالشفافية المفرطة، أي بإعادة نشر كل ما حُجب عن الناس طوال ثلاثين سنة، ورفع السجادة، على كبرها، لإظهار حجم الأوساخ الموجودة تحتها مهما كانت الكلفة. وكل امتناع عن تغطية السرقات، هو عمل إصلاحي بامتياز، وكل إعادة اعتبار الى القوانين، ولو انعكس ذلك بعض البطء في الإدارة اليومية، أفضل من كل عمليات «السلق» التي كانت قائمة، وكانت عمليات سرقة لا «سلق».
لا نريدكم شاطرين، ولا نريدكم أولاد سوق. نريدكم طبيعيين، وعاديين جداً. ونريدكم أكثر صلابة في وجه آلة الموت الجارفة لكل من يعطي أملاً بوجود فرصة جديد لحياة أقلّ قهراً تحت هذه السماء.

غداً: ماذا عن حزب المصرف؟