كانت منال تبلغ من العمر ستّ سنوات عندما بدأ يتحرش بها جدها لجهة والدتها، لم تكن تدرك معنى وسبب تصرفاته «المقززة» تلك، لكنها كانت تشعر بالخوف والحيرة والارتباك. وحين لجأت إلى والدتها للمساعدة، وعدتها بأن تحلّ الموضوع لكن شرط عدم إخبار أي أحد بما حصل وإلا «بدّك بيّك يتختِخ بالحبس لمّا يقتل جدّك؟». كنا قد تناولنا في مقالة سابقة البروتوكول العلمي للفحص الجنائي الشامل والدقيق في هذا النوع من القضايا، لبناء مقاضاة فعّالة في المحكمة، وألقينا الضوء على بعض المؤشرات السلوكية والنفسية لدى الأطفال التي قد تدل على تعرضهم للعنف الجنسي (راجع «القوس»، 26 شباط 2022، انتبهوا من «عمّو»). لأن الخوف من الشعور بالمسؤولية عن الإساءة أو من التحدث علانية بسبب الإحراج والفضيحة يمكن أن يؤدي إلى تضرر الضحية جسدياً ونفسياً بطريقة مباشرة.

لرفع الصوت
ضجّت أخيراً وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بخبر وفاة الطفلة لين طالب، جراء نزيف حاد ناتج عن اغتصاب متكرر. فيما ادّعت النيابة العامة الاستئنافية في الشمال على جدّ الضحية من جهة الأم للاشتباه به بالاغتصاب وعلى والدتها بتهمة التستّر على الجريمة. في المقابل، وبعد أيام قليلة على وفاة الطفلة لين، حاولت عائلة أخرى في عكار التستّر عن جريمة اغتصاب طفلها تجنّباً للعار، إلا أن الوضع الصحي والنفسي المتدهور للطفل اضطرهم إلى الكشف عن الجريمة.
إلى جانب ذلك، ازداد التداول بقضايا التحرش التي تطاول أطفالاً وقاصرين في لبنان وأصبح أمراً شبه يومي، فيما تصدر بيانات رسمية عن الجهات المعنية بتوقيف متحرشين. إذ أوقفت قوى الأمن الداخلي متحرش بطفلة تبلغ من العمر ثمانية أعوام بتاريخ 2/5/2023، وتداولت وسائل إعلامية خبر توقيف متحرش بعدد من الأطفال بالقرب من مدينة صور، بتاريخ 12/6/2023. كما أوقفت شعبة الخدمة والمعلومات التابعة لأمن الدولة أحد الأشخاص بتهمة التحرش ومحاولة اغتصاب فتاة تبلغ من العمر ثلاثة عشر سنة بتاريخ 26/7/2023. وكانت آخر تلك البينات بتاريخ 31/7/2023 حيث أوقفت الشعبة نفسها رجلاً يستدرج أطفالاً إلى منزله عبر تقديم مغريات مالية للتحرش بهم ومحاولة اغتصابهم.

في أي زمان ومكان
يساهم الوضع القائم في لبنان اليوم، من تفلّت وانعدام للرقابة وضعف الإشراف الأسري وتصدّع البنية التربوية في ظل انهيار مستمر للقيم والمبادئ الأخلاقية، في ازدياد جرائم التحرش والاغتصاب. يقول أستاذ علم النفس الاجتماعي في الجامعة اللبنانية محمد شحيمي لـ«القوس»، مشيراً إلى أن هذه الحوادث يشهدها المجتمع اللبناني حتى من قبل أزمة 2019 وبدء الانهيار المالي والأزمة الاقتصادية التي أثقلت هموم السكان. وهذا ما أكدته أستاذة العلوم النفسية الاجتماعية في الجامعة اللبنانية أديبة حمدان، قائلةً إن العنف الجسدي والمعنوي جراء الاغتصاب والتحرش يزداد نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي هيّأت بيئة حاضنة للجريمة وساهمت بالإفلات من العقاب، ما شجع الأفراد على ارتكاب المزيد من الجرائم. إلا أن هذه الحوادث ليست بجديدة وليست محصورة بالأزمة التي يشهدها البلد. فمع الانفتاح التكنولوجي، بدأت تلك الحوادث والجرائم تظهر إلى العلن حيث يتم تداولها بشكل واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي والوسائل الإعلامية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


وتضيف حمدان إن المؤسسات الاجتماعية والتربوية والإنسانية تفترض دائماً أن تلك الجرائم بعيدة كل البعد عن وقوعها، علماً أن هذا النوع من الجرائم يمكن أن يحدث في أي نوع من المؤسسات وحتى ضمن العائلة الواحدة وبأي بقعة جغرافية خارج المدن أو داخلها. وبحسب شحيمي، لا يوجد علاقة بين حالات الاغتصاب والتحرش والموقع الجغرافي لمكان حدوثها (المدينة أو القرية)، إنما يعود ذلك إلى الظروف وطريقة ونمط العيش. إذ يمكن ملاحظة خروج حالات الاغتصاب والتحرش إلى العلن في المدينة أكثر من القرية.

شيطان أخرس
الخوف من الفضيحة ومن نظرة المجتمع السلبية ربما ساعد على إفلات المعتدين والمجرمين من العقاب. كرفض أهالي إحدى القرى اللبنانية تسليم أحد أبنائهم الذي تحرّش بأشخاص عدة، خوفاً من وصمة العار ومن الفضيحة التي ستطاول قريتهم. وفي هذا الإطار، يعدّ شحيمي إخفاء جرائم الاغتصاب والتحرش والتستّر عنها أمراً «طبيعياً» داخل مجتمعاتنا تجنباً «للفضيحة». وذلك بالطبع ليس الحل بالنسبة إلى شحيمي، الذي يضيف: «غالباً ما يعمد الضحايا وذووهم إلى إخفاء تعرضهم لجريمة الاغتصاب أو التحرش خشية الفضيحة الاجتماعية وانهيار مركزهم الاجتماعي، إلا أن هذا التستّر من شأنه أن يشجع الجاني على ارتكاب المزيد من الجرائم».
وفي السياق نفسه، تشدد حمدان على الأهمية القصوى للتبليغ عن هذه الجرائم لمنع الإفلات من العقاب وللحد من انتشار هذا النوع من الجرائم، فالضحية (أو ذويها) التي تتستّر على تعرضها لمثل هذه الأفعال عن وعي أو غير وعي والرضوخ لأمر الواقع خوفاً من «الجرصة» يشجع المعتدي على التمادي في أفعاله. مضيفة أنه من المفترض أن تدرَّس «ثقافة التحدث عن الجرائم» داخل المنازل والمدارس والجامعات لكسر الصمت، الأمر الذي يعزز التعامل بشكل صحي مع الضحية وذويها وحتى مع الجاني نفسه.

لإفشاء السر
زنا المحارم (الاغتصاب والتحرش بين أفراد العائلة الواحدة) هو من أسوأ أنواع جرائم الاغتصاب والتحرش، ويعدّ خرقاً للمعايير الدينية والقيم الاجتماعية والفطرية، يوضح شحيمي، مضيفاً أنه غالباً ما يُشخّص المغتصب أو المتحرش بمرض «الشبق الجنسي» الذي يتمثل باضطرابات هرمونية جنسية واضطرابات عقلية. فلا يعود بمقدار الجاني التمييز بين أمه وجدته وزوجته وحفيدته وابنته وأخته. وذلك يستعدي، وفق شحيمي، الحجر الفوري لحماية الضحية كما يتوجب معالجة الجاني ضمن مصحات عقلية ونفسية للوقاية من جرائم أخرى قد تطاول ضحايا إضافيين. يستذكر شحيمي، في هذا السياق، حادثة في إحدى المدارس الثانوية، حيث عاين رجلاً سبعينياً كان يعمل حارساً لمدخل الثانوية، حيث أقدم على اغتصاب فتيات عدة. تم تشخيص الحارس باضطرابات جنسية وخلل هرموني وحُكم عليه بالسجن. وهنا، يشير أستاذ علم النفس الاجتماعي إلى أن السجن وحده ليس الحل، بل من المفترض تقديم علاج نفسي واحترازي. فزجّ المحكوم عليه داخل سجن لتنفيذ عقوبته من دون إعادة تأهيله وتأمين المعالجة النفسية اللازمة لا يعالج الأزمة، فقد يعود، بعد خروجه من السجن عند انقضاء فترة محكوميته، لتكرار الجريمة ذاتها.
وفي هذا الصدد، يشدد شحيمي على ضرورة إجراء اختبارات نفسية لكل من يتقدم إلى وظيفة، التي تعدّ أساسية للتأكد من خلو الشخص من العيوب النفسية والعقلية «لسلامته وسلامة الجميع». وتؤكد أستاذة العلوم النفسية الاجتماعية على أن الأشخاص الذين يقدمون على الاغتصاب والتحرش بأولادهم وأحفادهم وأخواتهم هم في غالبية الأحوال مرضى «حالات نفسية غير سوية»، تتطلب متابعة خاصة للكشف عن النشأة النفسية والاجتماعية للمعتدي، ومعالجته قبل أي شيء. «فالكثير من الأشخاص المعتدين يمارسون حياتهم غير مدركين أنهم بحاجة إلى علاج».

تعزيز الرقابة الأسرية
يقول شحيمي إن الأفلام الإباحية وسهولة الوصول إليها خصوصاً عند الأطفال والمراهقين قد تساعد في انتشار حوادث الاغتصاب والتحرش، كون ما ينظرون إليه هو شيء طبيعي ومنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعلى الشبكة العنكبوتية. فيؤدي ذلك إلى رغبتهم في ممارسة العلاقات الجسدية بالقوة، مع أطفال أقرباء لهم. وتضيف حمدان إن الأفلام الإباحية تغذّي النفوس الضعيفة وأصحاب الحالات النفسية غير السوية الصعبة، ما يفسّر إقدامهم في المستقبل على التحرش والاغتصاب كرد فعل وسلوك عدائي تجاه الحلقة الأضعف من أولاد ونساء غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم.
«إذا ما بدّك بيّك يتختِخ بالحبس أوعك تخبريه شو عمل جدّك معك»


مشيرةً إلى عوامل أخرى تساهم في ارتكاب فعل الاغتصاب والتحرش وتكراره، ومنها، عامل التنشئة الاجتماعية والبيئة غير السوية خصوصاً داخل المنزل التي تؤدي إلى تكوين مفهوم خاطئ للعلاقات الجنسية لدى الطفل. وتدعي حمدان إلى ضرورة وجود ثقافة توعية (كمادة تدرّس داخل المدارس) عن العلاقات الجنسية السليمة بهدف خلق مفهوم سليم عند الأطفال والمراهقين خاصة في ظل الفراغ المعرفي لديهم حول تلك العلاقة أو لتصحيح المفاهيم المغلوطة التي اكتسبوها. لا سيّما أن معظم الأهالي «يستصعبون» التحدث عن هذه المواضيع التي تعدّ حساسة بالنسبة لهم، كونهم ينتمون إلى مجتمع لديه خصوصياته وتقاليده. نتيجة ذلك، «يلجأ الطفل إلى تنمية معرفته الجنسية من هنا وهناك، ويقع في الفخ. فالانحراف يمكن أن يكون نتيجة صدمة أو تربية غير سليمة».



حمدان: «لتحصين الفرد منذ صغره وتوعيته حول الاغتصاب والتحرش»
• توعية طفلك والتركيز على فكرة أن «جسدك ملكك، لا تسمح لأحد أن يلمسه».
• التحدث بوضوح عن الأماكن الخاصة في الجسد، للتمييز بين مختلف اللمسات التي يتعرض لها الطفل.
• يفترض وجود برامج وأنشطة وتوجيهات داخل المدارس وليس فقط في المنازل.
• التوعية مطلوبة من وسائل الإعلام أيضاً، فالجمعيات وحدها لا تكفي.


جدوى العقوبة
العقوبة ضرورية وأساسية لحماية المجتمع، إلا أن مفهوم العقوبات لا يهدف فقط إلى الردع وحماية المجتمع بل لإعادة تأهيل الجاني بشكل أساسي. ويفترض أن يكون للعقوبة أثر مهم للحد من تكرار الجريمة، وتصحيح السلوك الجنائي وإعادة انخراط الجاني بشكل فعّال في المجتمع بعد خروجه من السجن. من دون النجاح في تحقيق هذا الهدف لا يعود للعقوبة معنى. وبالتالي، تتطلب الحماية الفعّالة للمجتمع إعادة تأهيل المحكوم عليهم، ومن ضمنهم المقدمين على جرائم الاغتصاب والتحرش الذين يستوجبون مساعدات نفسية محددة واختبارات نفسية دورية مع فصلهم عن باقي السجناء داخل القاووش.


بيئة «حاضنة»
إن المشردين والأطفال في الشوارع هم أكثر عرضة للتحرش والاغتصاب والدخول ضمن دوامة بيئة جنائية لا تنتهي، وفقاً لشحيمي. إذ يمكن أن تنعكس سلباً عليهم ويرتكبون الاعتداء الجنسي أو ينخرطون في تجارة المخدرات وممارسة الدعارة. وتؤكد حمدان أن الأولاد المشردين، بعيداً عن المدرسة والعائلة، هم أكثر عرضة للتحرش لكنهم ليسوا الوحيدين. «حتى حين ترسل الأم مثلاً ابنتها أو ابنها إلى الدكان أو عند الجيران، سيكونون أيضاً عرضة للتحرش والاغتصاب».