يقول مكنّا في كتابه، الجزء الأول من «مجموعة القوانين المشروحة» التي تهدف إلى شرح قوانين عدّة في مجالات مختلفة، إن غايات القانون التي حددتها الأسباب الموجبة بحماية الأشخاص الذين يتعرضون للتحرش الجنسي، معاقبة مرتكبي جرائم التحرش وإعادة تأهيلهم، «تظهر الأهمية التي يوليها القانون للضحية سواء لجهة حمايتها وتأهيليها، أم لجهة الوقاية التي تتخذ في أحد أشكالها إعادة تأهيل من سبق وارتكب جرم التحرش الجنسي، إضافة إلى طابعه العقابي الذي على أهميته، لا يراه كافياً لوحده لمعالجة النتائج السلبية التي تصيب ضحية التحرش الجنسي».ويلفت إلى العناصر التي حددها المشترع اللبناني للتحرش بالاستناد إلى الفعل وموقف الضحية منه في نص الفقرة 1 من المادة 1: يشترط أن يكون الفعل سلوكاً سيئاً، متكرراً، خارجاً عن المالوف، وذا مدلول جنسي، يشكل انتهاكاً للجسد أو للخصوصية أو للمشاعر، يقع على الضحية في أي مكان وُجدت، وبأي وسيلة. متوقفاً عند وصف السلوك بأنه «سيّئ» معتبراً أنه لا يمكن حصر الفعل بلفظ السيّئ بإطار موضوعي كون بعض التصرفات لا تثير أي إشكالية في وصفها، وهناك انقسام حول ما يحتمل أن يوصف بهذا اللفظ لا سيّما في ضوء خصوصيات المجتمع اللبناني.


وفي ما يتعلق بالسلوك المتكرر، يلفت مكنّا إلى أن نص الفقرة 1 من القانون لم تعدد الأفعال لاعتبار السلوك متكرراً، ولم يحدد المشترع المدة الفاصلة بين الفعلين أو الأفعال التي تشكل العادة، معتبراً أن عدم التحديد يُبقي الأمر متروكاً لتقدير القاضي، في كل حالة على حدة، للقول بما إذا كان السلوك المشكو منه «متكرراً». مؤكداً فكرة «اللجوء إلى الوسائل البديلة (الوساطة) وليس فقط الشكوى الجزائية لحل مشاكل التحرش الجنسي في إطار علاقات العمل، وذلك بهدف الحفاظ قدر الإمكان على علاقة العمل» (ص 19).

العقوبات المشددة للتحرش
يظهر الكتاب اجتهادات القضاء الفرنسي والتونسي حول موضوع التحرش الجنسي، كما يتناول عدداً من القرارات الصادرة عن المحاكم في هذا الخصوص. وبعد استعراضه للعقوبات التي تفرض على المتحرش في المادة الثانية من القانون رقم 205/2020، التي تنص في الفقرة (أ) على «الحبس من شهر حتى سنة وبغرامة تتراوح بين ثلاثة أضعاف وعشرة أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجور أو بإحدى هاتين العقوبتين» وصولاً إلى تشديد العقوبة في الفقرة (ج) لتصل إلى «الحبس من سنتين إلى أربع سنوات وبغرامة تتراوح من ثلاثين إلى خمسين ضعف الحد الأدنى للأجور، في حال وقع جرم التحرش على حدث أو شخص من ذوي الاحتياجات الإضافية، أو إذا كان الجاني له سلطة مادية أو معنوية أو وظيفية أو تعليمية على المجنى عليه، وإذا ارتكب فعل الجاني شخصان أو أكثر، وإذا استخدم الجاني الضغط الشديد النفسي أو المعنوي أو المادي في ارتكاب الجرم للحصول على منفعة ذات طبيعة جنسية».
وفي هذا السياق، يلفت مكنّا إلى أن «القانون الفرنسي يكتفي للتشديد في أن تكون الضحية في حالة ضعف ظاهرة أو معروفة من الفاعل، ولا يتضمن أي شرط يتعلق بمدى قدرتها على المدافعة، فالفقرة 3 من المادة 222-33 من قانون العقوبات الفرنسي تحدد حالات الضعف لدى الضحية، التي تشدد عقوبة التحرش الجنسي المرتكب بحقها، وهي السن، الإعاقة الجسدة أو النفسية، حالة الحمل، وحالة الضعف الناتجة عن الوضع المالي أو الاجتماعي».
أما في تونس، ينص الفصل 226 - ثالثاً، من مجلة الإجراءات الجزائية، المضاف بموجب المادة 15 من القانون المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، على مضاعفة عقوبة التحرش الجنسي «إذا سهّل ارتكاب الجريمة حالة استضعاف الضحية الظاهرة أو المعلومة من الفاعل».

التحرش على الأصول والفروع
تعقيباً على سلطة الجاني المادية أو المعنوية أو الوظيفية أو التعليمية على المجني عليه، المذكورة في المادة الثانية (ج) من قانون «تجريم التحرش الجنسي وتأهيل ضحاياه»، حيث تشدد هذه الحالة سوء استخدام السلطة لغاية التحرش الجنسي، وتشمل أوجه السلطة كافة. يشير مكنّا إلى «قضية كانت معروضة على محكمة الجنايات في بيروت، أنكر المتهم أبوته للقاصرة غير البالغة من العمر خمس عشرة سنة، التي اتهم بجناية المادة 506 لإقدامه على مجامعتها بالاستناد إلى أنها ابنته، فردت المحكمة ما أدلى به لهذه الجهة، معتبرة أنه على فرض ثبوت أنها ليست ابنته إلا أنه كان يمارس عليها سلطة، ما يجعل عناصر المادة المذكورة متحققة». لافتاً إلى أن «قانون العقوبات الفرنسي ينص صراحة في الفقرة 3 من المادة 222-33 على تشديد العقوبة في الحالة التي يكون فيها الفاعل أحد أصول الضحية، أو أي شخص له عليها سلطة قانونية أو فعليّة» (Autorité de droit ou de fait).
كما ينص الفصل 226 - ثالثاً من المجلة الجزائية التونسية، المضافة بموجب الفصل 15 من القانون المُتعلّق بالقضاء على العنف ضد المرأة، على مضاعفة عقوبة التحرش الجنسي في حال كان الفاعل من أصول الضحية أو فروعها من أي طبقة، وكذلك، إذا كانت له سلطة على الضحية.

تأهيل ضحايا ومرتكبي التحرش
«إن فكرة تأهيل ضحايا التحرش الجنسي، التي أتى بها القانون 205/2020، مهمة جداً على صعيد جبر ضررهم. فالأضرار التي تصيب ضحايا هذه الجرائم، لجهة طبيعتها، وآثارها النفسية السلبية، لا يمكن التعويض عنها بالكامل، بما هو متعارف عليه تقليدياً في قواعد التعويض، ويهدف تأهيل ضحايا التحرش الجنسي إلى تقديم المساعدة اللازمة، وفق حالة كل منهم، بهدف التخلص من آثار ما تعرضوا له واندماجهم في المجتمع»، يؤكد مكنّا في كتابه، مشيراً إلى أن «فكرة التأهيل في القانون المذكور لم تقتصر على ضحايا التحرش الجنسي، بل تشمل مرتكبي هذا الجرم أيضاً، وفق ما تبيِّن المادة 6».
لا يشتمل قانون تجريم التحرش الجنسي على آليّات وموجبات الوقاية من التحرش في أماكن العمل


يصبّ التأهيل حتماً في منفعة مرتكبي التحرش، ويحقق مصلحة المجتمع أيضاً، إذ يؤدي إلى درء خطر التحرش الذي يمكن أن ينتج عنهم مستقبلاً، وبذلك تلتقي هذه الفكرة مع فكرة الوقاية.
وفي هذا الخصوص، ينص الفصل 10 من القانون المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة في تونس على أن تتَّخذ وزارة العدل كل التدابير اللازمة لإعادة تأهيل مرتكب جريمة العنف ضد المرأة وإعادة إدماجه في الوسط العائلي والاجتماعي.

آلية الوقاية والتأهيل
إن أساس آلية الوقاية والتأهيل يتمثل بصندوق خاص ينشأ لدى وزارة الشؤون الاجتماعية، يُحدّد نظامه بموجب قرار تنظيمي يصدر عن وزير الشؤون الاجتماعية. رغم مرور سنتين ونصف السنة على صدور القانون 205/2020، لم يتم إنشاء هذا الصندوق فعلياً بعد، علماً أن آلية إنشائه ووضع نظامه المحددة أعلاه، بسيطة ولا تستلزم إجراءات معقدة.
يُموَّل هذا الصندوق من مساهمات الدولة، إذ يُرصد لهذه الغاية اعتماد في الموازنة العامة السنوية لوزارة الشؤون الاجتماعية. إلا أن هذه الوسيلة في التمويل قد تواجه صعوبات في الوضع الحالي للمالية العامة.
وحول الكتاب وتفاصيله، أجرت «القوس» مقابلة مع الكاتب للتعرف أكثر على ما يحمل في طياته وعلى أهميته العلمية والقانونية.

يتزامن صدور الكتاب مع ازدياد نسب جرائم التحرش الجنسي، فما أهميّة وجود قانون يُجرّم هذا الفعل؟
تبرز أهميّة هذا القانون بأنه خطوة مهمة في مجال التشريع الرامي إلى حماية الحقوق الأساسيّة، ومكافحة أحد أشكال التمييز ضد المرأة، فرغم أن فاعلي جرم التحرش الجنسي وضحاياه يمكن أن يكونوا من الجنسين، إلّا أن الغالبيّة الساحقة لتلك الأفعال تمسّ بالنساء، وقد أدّت تاريخيّاً إلى تشكيل عقبة أمام انخراطهنّ في مجال العمل.

كيف يمكن تطوير القانون الحالي لتجريم التحرش الجنسي وتأهيل ضحاياه؟
بشكل عام، عندما يصدر قانون جديد في مجال محدد تكون الغاية الأساسيّة إيجاد إطار قانوني للحالة التي يتمّ التشريع من أجلها. ومن الطبيعي بعد ذلك أن يُظهر التطبيق العملي بعض النواقص في القانون، أو بعض النواحي التي تحتاج إلى تفصيل كي تتحقق الغاية منها. فعلى سبيل المثال، أقرّ القانون الحالي مبدأ حماية الضحايا والشهود خلال الإجراءات، وهذا أمر جيّد على الصعيد المبدئي، إلّا أنه لم ينصّ تفصيلاً على تدابير الحماية ووسائلها والآليّات الواجب سلوكها لإقرارها، الأمر الذي يمكن أن يؤدي عمليّاً إلى عدم فعاليّة هذا المبدأ، لا سيّما أن بعض أوجه الحماية، كسرّية هويّة الشهود يتعارض مع مبادئ إجرائيّة مُكرّسة قانوناً، فلا يجوز إقرار وسيلة الحماية هذه إلّا بنصوص قانونيّة صريحة ومُحددة الشروط والنطاق.

بموازاة أهميّة تطوير النصوص القانونيّة، يجب التركيز على أهميّة إنشاء وتفعيل آليّة تأهيل ضحايا التحرش الجنسي ومرتكبيه


إضافةً إلى ذلك، يغلب الطابع العقابي على هذا القانون، ولا يشتمل على آليّات وموجبات الوقاية من التحرش الجنسي في أماكن محددة يكثر فيها كأماكن العمل، فمن المفيد هنا التفكير في كيفيّة تطويره لهذه الناحية، والاسترشاد بتجارب تشريعيّة عدة منها التشريع الفرنسي.
قد أشرت في معرض شرح القانون إلى أمور تصلح لفتح نقاش علمي غايته تطوير القانون. ومن يطّلع على مسار التشريع الفرنسي في هذا الخصوص يجد أنه خضع لتعديلات عدّة منذ إقرار تجريم التحرش الجنسي عام 1994 لغاية النص الساري المفعول اليوم، وكان آخرها عام 2018. والأمر سيّان في ما يتعلّق بأحكام التحرش الجنسي في قانون العمل الفرنسي، التي أُقرّت عام 2008 وحصل آخر تعديل عليها في 2022.
وبموازاة أهميّة تطوير النصوص القانونيّة، يجب التركيز على أهميّة إنشاء وتفعيل آليّة تأهيل ضحايا التحرش الجنسي ومرتكبيه، إذ إن مبدأ التأهيل الذي أقرّه القانون وأبرزه في عنوانه يبقى مُجرّد نص من دون مفعول إذا لم يتمّ إنشاء الصندوق الخاص في وزارة الشؤون الاجتماعيّة ومباشرة مهامه المنصوص عليها في المادة 6 من القانون بفعاليّة.