قبل سنوات، دخلت المدارس حلبة المبارزة في ما بينها لتحقيق نسبة 100% نجاح في الامتحانات الرسمية، لتلي ذلك المنافسة للحصول على المراكز الأولى في هذه الامتحانات.النظر إلى هذه النتائج يسرّ الناظرين، ويروّج لصورة المدارس المتقدّمة والناجحة التي لا يوجد فيها أي متعثّر، أو راسب.
وإذا كانت هذه النتائج تأتي بعد جهود تبذلها المدارس نفسها، من خلال تأمين الاحتياجات التعليمية للتلامذة، ولا سيما في ظل الظروف الاستثنائية للقطاع التربوي، إلا أن بعض المدارس، وضمن خطة إدارة المخاطر، تلجأ إلى «تصفية» التلامذة المتعثّرين الذين قد يشكلون خطراً على تحقيق الإدارات للنتيجة المبتغاة، فلا يُقبل تسجيلهم في صفوف الشهادات الرسمية حتى وإن تعلّموا الحرف الأول في هذه المدارس.
لا يمكن إنكار الضغط الاجتماعي الذي تواجهه الكثير من المدارس، فبعضها يدخل عنوة في هذا السباق ليحجز مكاناً ضمن المؤسسات التربوية الرائدة، وهذا يأتي على حساب الكثير من المتعلّمين الذين يحتاجون إلى احتضان نفسي وتربوي، وتعزيز الدافعية لديهم لتخطي التقييمات الرسمية. في المقابل، تعمد هذه المؤسسات إلى وضعهم أمام ضغوطات أكبر من قدرتهم على تحمّلها، قد تصل إلى اعتبارهم خيول سباق والمراهنة على كل منهم، ومن لا تتوافر فيه المعايير اللازمة يخرج من السباق، ويأخذ أوراقه وإفادة نجاحه وسلوكه وتنويهات أدائه وكل ما يشتهي من أوراق، ليذهب بها إلى مكان آخر لا تصدق عليه صفة «ريادة»!
هذه السلوكيات تتناقض وأبسط المبادئ والقيم الإنسانية والتربوية التي تنادي بتكافؤ فرص التعليم بين التلامذة، بغضّ النظر عن جنسهم أو لونهم أو مستواهم الاجتماعي أو دينهم أو حتى قدراتهم التعلّمية.
يجب ألا نحمّل المدارس وحدها المسؤولية في ذلك، إذ إن الأهل يتحمّلون في كثير من الأحيان المسؤولية أيضاً، فمطالبتهم للمؤسسات التربوية بـ«سجلّ نتائج» من فئة «لا رسوب عليه» قبل تسجيل أولادهم فيها، تجعلهم مشاركين في هذه الجريمة التربوية!
الامتحانات الرسمية هي محطة تقييم انتقالية، ونتائجها لا تعبر بالضرورة عن البيئة التعليمية للمؤسسات، ولا تعكس دائماً جهود الكوادر البشرية والتعليمية. إنها تقييمات تحدد مدى اكتساب المتعلّمين للكفايات المرصودة في صفوف الشهادات الرسمية، وتحدد إمكانية ترفيع هؤلاء التلامذة، وعدم النجاح فيها لا يعني بالضرورة فشل المؤسسات التربوية في التخطيط والإشراف والتعليم وتهيئة المتعلّمين لظروف الامتحانات على مستوى المعارف والكفايات والمهارات اللازمة، بل يمكن أن يرتبط بخصوصيات بعض التلامذة المتعثّرين، الذين قد تحول بينهم وبين تخطي هذه التقييمات العديد من التحدّيات التعلّمية مثل الصعوبات التعلّمية، الأكاديمية والنمائية، والاضطرابات التعلّمية والسلوكية (إن لم تنجح التكييفات اللازمة)، إضافة إلى الاضطرابات النفسية والمشاكل الصحيّة وغيرها من التحدّيات التي يكون للمؤسسات دور محدود في التدخل فيها، أو حتى يمكن أن لا يكون لها أي دور في معالجتها.
من هنا، لا بد من التخلي عن بدعة النجاح الكامل في الامتحانات الرسمية، ليس ضمن سياق عدم العمل لتحقيقه، وإنما التخلي عنه كمؤشر وحيد لتقييم نجاح المؤسسات التربوية. في المقابل، يمكن اعتماد مؤشرات بديلة أكثر واقعية، تراعي الفروقات الفردية للتلامذة وقدراتهم التعلّمية، كمؤشر نسبة المتعلّمين المقبولين في اختصاصات كالطب والهندسة، وعدد المتعلّمين الذين حازوا على منح تعليم في الجامعات، وعدد المتعلّمين الذين تمّ قبولهم للدراسة في الجامعات الأجنبية، فضلاً عن مؤشر الصحة النفسية للمتعلّمين، وغيرها من المؤشرات الموجودة أو التي يمكن ابتكارها ويمكن أن تعكس نجاح المؤسسات في تحقيق الهدف الأسمى لها، وهو التربية من دون أن يكون مؤشر نجاحها مبنياً على أنقاض التربية!

* متخصّص في مجال الإدارة التربوية والاضطرابات التعلّمية.