اعتقلت السلطات الأميركية المواطن اللبناني محمد يوسف حمود في 21 تموز 2000 في ولاية كارولاينا الشمالية بعد أن اتّهمه القضاء بتهريب سجائر وتبييض الأموال ومخالفة قوانين الهجرة. في 28 آذار 2001 صدر قرار اتهامي إضافي زعم من خلاله المدعي العام كينيث بيل أن حمود هو «قائد خلية إرهابية» تابعة لـ«حزب الله» في الولايات المتحدة. بعد التحقيق والتدقيق في السجلّات المصرفية ومراقبة منزل حمود وتسجيل آلاف المكالمات الهاتفية بينه وبين أشخاص آخرين، وبعد ترجمة المحققين مئات المستندات من العربية إلى الإنكليزية، فشل المدعي العام في إثبات مزاعمه. لكن بدل إخلاء سبيل الشاب اللبناني، اختلقت السلطات القضائية الأميركية بعد جهد كبير أدلة يمكن الاستناد إليها لإدانته بدعم منظمة إرهابية مالياً.وفي 28 شباط 2003 صدر الحكم بسجنه لمدة 155 سنة.

(خاص القوس)

وأخلي سبيله بعد إعادة النظر في مدة الحكم في حزيران المنصرم بعد أن قضى 23 سنة في السجون الأميركية (راجع «الأخبار»، 14 حزيران 2023، إطلاق «قائد» حزب الله في أميركا).
استخدم المدعي العام ومكتب التحقيقات الفيدرالية كل ما يمكن للتأثير على المحكمة ودفعها إلى إدانة حمود بدعم «منظمة إرهابية» مالياً، إذ ركّز أمام هيئة المحلّفين الأميركيين (في النظام القضائي الأميركي يصدر الحكم عن هيئة محلّفين مؤلفة من مواطنين أميركيين بينما يحدد القاضي نوع العقوبة ومدتها) على عرض كتب وأفلام وثائقية عن «حزب الله» عثر عليها المحققون في منزل حمود. علماً أن حمود كان قد عبّر للمحكمة عن إعجابه بالحزب لأنه «حرّر بلدي وساعد الفقراء والأيتام».
كما عرض المدعي العام مشاهد مصوّرة لعناصر الحزب يهتفون «الموت لإسرائيل والموت لأميركا» أمام هيئة المحلّفين في المحكمة لحثّهم على إدانة حمود بسبب موقفه من الحزب، علماً أن الدستور الأميركي يضمن حرية الرأي والتعبير.
ولم يتوقف المدعي العام عند هذا الحد بل فبرك رواية عن سعي حمود، أثناء اعتقاله في سجن مكلينبرغ (كارولاينا الشمالية) إلى تصفيته جسدياً من خلال هجوم إرهابي وإتلاف ما زعم أنها «أدلة» يمكن الاستناد إليها لإدانته قضائياً. ورغم أن المحكمة قررت بأن مزاعم المدعي العام تفتقر إلى الحد الأدنى من المصداقية، وأمرت بإغلاق ملف محاولة الاغتيال حتى لا تتأثر هيئة المحلّفين برواية غير مثبتة، عمّمت وسائل الإعلام والتلفزيونات الأميركية هذه المزاعم باعتبارها حقائق دامغة وساهمت في تعزيز الأحكام المسبقة بحق حمود من قبل هيئة المحلّفين.

لقاء الخميس
الشاب محمد حمود كان قد سافر إلى مدينة شارلوت (ولاية كارولاينا الشمالية) عام 1992 حيث كانت الجالية اللبنانية الصغيرة تجتمع مساء كل خميس في أحد المنازل للصلاة لأنه لم يكن هناك مسجد في شارلوت. وما لبث أن انضم حمود إلى لقاءات الخميس مع عدد من أبناء الجالية اللبنانية.
زعم الادعاء العام الأميركي أن هؤلاء الأشخاص أعضاء في «حزب الله» وأن حمود كان يتحدث عن الحزب بعد الصلاة ويعرض لهم أشرطة فيديو يظهر فيها مقاتلون تابعون للحزب في الجنوب. كما زعم المدعي العام أن حمود كان يجمع التبرعات للحزب من المصلين.
لكن مكتب الادعاء لم يقدم أي دليل دامغ أو أي شاهد يثبت صحة هذه المزاعم. ورغم ذلك كرّرها المدعي العام أمام وسائل الإعلام وفي المحكمة باعتبارها حقائق حاسمة.

شاهد «متلاعب وكاذب»
بعد فشل المدعي العام في إقناع المحكمة بمزاعمه عن سعي حمود إلى اغتياله وإتلاف الأدلة، قام بإقناع لبناني موقوف لدى السلطات الأميركية يُدعى سعيد حرب بتقديم شهادة أمام المحكمة بأن حمود من داعمي «حزب الله» مالياً. كان حرب يواجه عقوداً في السجن بسبب ضلوعه في جرائم تزوير ورشى وجرائم أخرى. اتفق المدعي العام وحرب على تقليص عقوبة الأخير التي كانت تفوق 10 سنوات إلى 47 شهراً وإحضار 12 فرداً من عائلته للعيش في الولايات المتحدة مقابل شهادته ضد حمود. وبالفعل شهد حرب بأن حمود أرسل شيكاً مصرفياً بقيمة 3500 دولار إلى شخص زعم أنه مسؤول في «حزب الله» عام 1999.
لكن لم يقدم المدعي العام أي دليل على ذلك، علماً أن سجلّات الشيكات والتحويلات المالية المصرفية متوفرة وكان يمكن الاستعاضة عن شهادة حرب وتقديم الوثائق التي تثبت هذه الرواية. على أي حال، عثر الادعاء بعد حين على وثائق تثبت بأن حمود كان قد أرسل شيكاً مصرفياً آخر في عام 1995 إلى السيد محمد حسين فضل الله. ولم يكن ذلك يشكل تجاوزاً للقانون الأميركي حينها.

القضاء الأميركي يعدّ كل شخص يرفع علم {حزب الله} منتسباً إليه كما بدا خلال محاكمة حمود (من الويب)

في ما يتعلق بهذا الأمر، قال القاضي المعترض على الحكم الذي صدر بحق حمود في محكمة الدائرة الرابعة روجر غريغوري إن «الحكومة (الأميركية) لم تفشل فقط في ربط تبرع حمود المزعوم بقيمة 3500 دولار لمسؤول في الحزب بأي غرض غير قانوني، أو عمل إجرامي متنازل عنه، ولكنها بالكاد تمكنت من ربط الأموال بالمسؤول. تعترف الحكومة بأن مصدر المعلومات الوحيد الذي يشير إلى أن حمود كان يرسل الأموال إلى {حزب الله} هو سعيد حرب. وقد وصِف حرب، طوال مدة المحاكمة، بأنه غير جدير بالثقة ومتلاعب وكاذب ومبالغ. (...) شهد المدعو حرب أنه نقل ذات مرة من حمود أموالاً إلى {حزب الله}. كما شهد أن المبلغ الذي نقله وُضع داخل ظرف يحتوي على شيكَين يبلغ مجموعهما 3500 دولار. وشهد حرب أنه تحدّث مع المسؤول (في الحزب) عبر الهاتف أثناء وجوده في لبنان، لكنه لم يلتق به ولم يسلّمه المال. بدلاً من ذلك، قال حرب إنه «أحضر [المغلف] لوالدته وأخبرها أن تتأكد من وصوله إلى والدة حمود». ظاهرياً، وفقاً لنظرية الحكومة، أعطت والدة حمود المال للمسؤول رغم عدم وجود أي شهادة في السجل تشير إلى سلسلة الأحداث التي يُزعم أنها أدّت إلى ربط حمود بالمسؤول.
في الواقع، لم يشرح حرب أبداً كيف وصلت الأموال إلى الحزب، ولم يصرّح أنه تحدث مع والدة حمود للتأكد من تسلّمها المغلف، فضلاً عن التحدث إلى المسؤول للتأكد من تسلّمه المبلغ من والدة أمّ حمود. رغم هذه الحقائق، كان التحويل بقيمة 3500 دولار هو الصفقة الوحيدة التي قدّمتها الحكومة لدعم الاتهام ضد حمود».
حُكم على محمد يوسف حمود بالسجن 155 سنة بناءً على هذه الشهادة الكاذبة، إذ كما اعترف القاضي غريغوري، لم يكن هناك شيك مصرفي أرسله حمود إلى المسؤول، ولا أي مكالمة هاتفية تؤكد أي علاقة بينهما. لا شيء سوى شهادة كاذبة.
لكن بقي السؤال المحيّر: إذا لم يكن هناك أي دليل، لماذا أدانت هيئة المحلّفين محمد حمود؟

تهمة الإرهاب: مفتاح الإدانة الأكيدة
مستعيناً بخبرته التي تزيد على 18 عاماً في القضاء، أتقن المدعي العام كينيث بيل أساليب وحيَلاً لفتتْ أنظار هيئة المحلّفين في المحكمة، إذ تناول هجمات 11 أيلول للحديث عن تهم الإرهاب الموجهة ضد حمود وللإشارة إلى قاسم مشترك بين مرتكبي تلك الهجمات وحمود وهو الانتماء إلى الدين الإسلامي. يشكل ذلك فصلاً من فصول التمييز ضد المسلمين (إسلاموفوبيا)، إنما في الحقيقة لا يوجد أي رابط بين هجمات 11 أيلول واللبناني حمود، الذي أوقف وسُجن عاماً كاملاً قبل وقوع هجمات 2001 الإرهابية.
عقد المدعي العام مؤتمرات صحافية عدة تحدث خلالها عن «النشاط العنيف» المزعوم لـ«حزب الله» في الثمانينيات. ولإقناع الجمهور بأن حمود هو بالفعل إرهابي خطير، عزّزت الحكومة الإجراءات الأمنية حول المحكمة ووضعت حواجز في الشوارع المحيطة. ونُقل حمود من السجن إلى المحكمة بواسطة آلية مصفّحة ترافقها آليات عدة تابعة للشرطة. كما جرى إعطاء هيئة المحلّفين أرقاماً بدلاً من أسمائهم بحجة أنهم قد يكونون معرّضين للخطر وجُمعوا في مكان سرّي قبل أن ينقلهم المارشال الأميركي، بمواكبة أمنية صارمة، إلى المحكمة. وأصبحت المحكمة والمنطقة المحيطة بها مثل ساحة حرب. كذلك كرّرت وسائل الإعلام أثناء التغطية جملة: «هنا ستُجرى محاكمة قائد الخلية الإرهابية». وبالتالي كان من الصعب جداً على أي مواطن أميركي عادي أن يعتقد بأن محمد حمود بريء من التهم الموجهة إليه.
وافقت المحكمة على طلب المدعي العام عرض أفلام وثائقية عن العمليات العسكرية التي قام بها المقاومون في «حزب الله» ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. وعُرضت بعض المقتطفات من الأفلام الوثائقية مراراً، خصوصاً المشاهد التي يظهر فيها بعض المتظاهرين يهتفون «الموت لأميركا والموت لإسرائيل». فلا شك أن عرض هذه المشاهد بعد مرور أشهر قليلة على هجمات 11 أيلول 2001 كان له أثر على هيئة المحلّفين من الناحية العاطفية.
كان الغرض الوحيد من عرض هذه المشاهد في المحكمة هو ترويع هيئة المحلّفين من أن تبرئة حمود وإخلاء سبيله خطر لأنه قابل للقيام بجريمة إرهابية ضد الولايات المتحدة. لم يكن هناك أي مبرّر قانوني لذلك على الإطلاق. وقد أكّد القاضي غريغوري على ذلك وأضاف: «اعترفت المحكمة ضمنياً بوجود عيوب دستورية جرى الطعن فيها في الاستئناف، لكنها اختارت المضي قدماً».

شهادة حمود مقابل مزاعم ليفيت
عندما وقف محمد حمود على المنصة في المحكمة للإدلاء بشهادته، ركّز المدعي العام على سؤاله عن «العنف» الذي حدث في لبنان خلال الثمانينيات عندما كان طفلاً. واستعان المدعي العام بالمدعو ماثيو ليفيت بصفته «خبير إرهاب» علماً أنه عمل لصالح الحكومة الإسرائيلية ومرتبط بمسؤولين إسرائيليين. لم يزر ليفيت لبنان، كما أنه لا يتقن اللغة العربية ولم يكن قد أكمل دراسته الجامعية يومها، ومع ذلك عدّته المحكمة الأميركية خبيراً في مواضيع الإرهاب وبالشؤون اللبنانية.
فشل المدعي العام في إقناع المحكمة بمزاعمه عن سعي حمود إلى اغتياله وإتلاف الأدلة


قال ليفيت لهيئة المحلّفين إن حمود هو «قائد رفيع المستوى في حزب الله لأنه اتصل بالسيد فضل الله في عام 1995» علماً أن التواصل والاتصال بالسيد خلال منتصف التسعينيات كانا متاحيْن بسهولة.
كما ادّعى ليفيت أن حمود ذهب إلى مدرسة موالية لإيران ومؤيدة لـ«حزب الله» ومعادية جداً للغرب ومعادية لأميركا. ونسب هذه المعلومات إلى شاهد (الزور) سعيد حرب. لكن عندما سُئل حرب عمّا إذا كان يعرف المدرسة التي ذهب إليها حمود أجاب بالنفي. وهكذا، اختلق ليفيت هذه الرواية للمساهمة بإقناع هيئة المحلّفين بأن حمود كان يتحضّر منذ صغره ليكون إرهابياً. والحقيقة أن محمد حمود تخرّج في ثانوية «النور» في برج البراجنة التي لا علاقة لها بـ«حزب الله» أو بإيران. وقال ليفيت أمام المحكمة إن «مسجد الحسين بن علي» في برج البراجنة هو مسجد السيد محمد حسين فضل الله. لكن ذلك عار عن الصحة، إذ إن المسجد الذي يصلي فيه فضل الله يقع في حارة حريك.

بدعة «المؤامرة الكندية»
زعم المدعي العام أن هناك مؤامرة كبيرة لـ«حزب الله󠆿» بين الولايات المتحدة وكندا ولبنان وأن حمود هو قائد خلية الحزب في الولايات المتحدة بينما يشغل (شاهد الزور) سعيد حرب منصب الوسيط بين حمود والخلية المزعومة في كندا. علماً أن المدعي العام أقرّ في مرافعته الافتتاحية بأن حمود لم يسافر إلى كندا ولا يعرف أي شخص في كندا.

زعم المدّعي العام أن هناك مؤامرة كبيرة لـ«حزب الله» بين الولايات المتحدة وكندا ولبنان وأن حمود هو «قائد خلية إرهابية»


ولدى سؤال حرب عن الموضوع أمام المحكمة نفى أن يكون حمود قد قام بأي اتصال بـ«الأصدقاء في كندا».
في هذه المرحلة، كان يفترض إسقاط تهمة التآمر في المحكمة، لأنه لم يكن هناك أي دليل على الإطلاق. لكن ذلك لم يحصل بسبب سوء أداء فريق الدفاع عن حمود.
على أي حال، منحت بدعة المؤامرة الكندية دفعاً مهماً لكينيث بيل، الذي أعطى انطباعاً بأنه يسعى إلى إحباط مؤامرة دولية كبيرة تمتد عبر الحدود من الولايات المتحدة إلى كندا.
(سنعرض في الحلقة الثانية الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها القضاء الأميركي والتي أدّت إلى إدانة حمود ظلماً).



المدّعي العام كينيث بيل: وصلني اتصال من واشنطن..
في عام 1999، تلقّى المدّعي العام الفيدرالي في ولاية كارولاينا الشمالية كينيث بيل مكالمة هاتفية من واشنطن حيث أراد مكتب التحقيقات الفيدرالي التحدث معه بشكل عاجل. كان بيل يجمع الأدلة في قضية تهريب سجائر وكان محمد حمود مشتبهاً فيه بهذه القضية. قال بيل لوكالة أن بي آر عام 2006: «بينما كانت القضية لا تزال قيد التحقيق، جاء إلينا مكتب التحقيقات الفيدرالي في مكان سرّي وأخبرنا أن أهداف هذا التحقيق تتعلّق بأعضاء في خلية حزب الله في شارلوت».
عمل بيل جاهداً لتلبية طلبات واشنطن من جهة ولتلبية طموحه للوصول إلى دور بطولي من جهة ثانية. فسعى إلى تحويل حمود إلى «قائد خلية إرهابية» من دون تقديم أدلة تثبت ذلك. أما بشأن مزاعم تهريب الأموال من الولايات المتحدة الأميركية إلى «حزب الله» في لبنان فقال بيل: «كان حمود يحوّل الأموال إلى شيك مصرفي ويسلمه إلى الرجل التالي الذي سيعود إلى منزله على متن طائرة، ويضعه في جيب معطفه ويسافر إلى لبنان».
يُذكر أن أجزاءً كبيرة من كتاب «البرق من لبنان: إرهابيو حزب الله على الأراضي الأميركية» (باربارا نيومن وتوم دياز، 2006) خُصّصت للإشادة ببطولة كين بيل في ملاحقة «قائد خلية حزب الله الإرهابية في الولايات المتحدة الأميركية» محمد حمود. وقال بيل في الكتاب: «كنت أعرف أن هذه كانت قضية العمر...» وبالتالي كان مستعداً أن يقوم بأي شيء لإدانة حمود وإقناع الجميع بأنه قائد خلية إرهابية تهدد أمن الولايات المتحدة الأميركية.
ولا يُستغرب إعجاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الملاحق حالياً من قبل القضاء الأميركي، بكينيث بيل، حيث رشّحه ترامب لمنصب قاضٍ فيدرالي عام 2019.