لطلال سلمان (1938 ـــ 2023)، مواعيدُ كثيرة، ليس آخرها بالتأكيد موعد رحيله أمس، طاوياً صفحةً تأسيسية في الصحافة اللبنانية حُبلى بالآمال الوطنية والقومية والمهنية. أحد آباء الصحافة المكتوبة والمقروءة، ابن قرية شمسطار البقاعية، أرّخ عبر «مواعيده» لا بلده لبنان فحسب، بل أيضاً شرقاً أوسطَ مليئاً بالقضايا، والانتصارات، والهزائم المدوّية. في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977، جاء مانشيت صحيفته الأبدية «السفير»: «الساقط عند المغتصب» رداً على زيارة الرئيس المصري أنور السادات لكيان الاحتلال الصهيوني. هذه الشجاعة المدهشة أرّخت لأيامٍ كثيرة تحمّلتها حياته وقلبه المتعب وجريدته الأثيرة، وكانت شاهدةً على منعطفات ومحطات سياسية وتاريخية مفصلية في لبنان والوطن العربي.
أتى الشاب البقاعي إلى بيروت، حاملاً أربعين ليرة لبنانية أعطاه إياها والده الدركي إبراهيم، قائلاً له بعدما أنهى دراسته الثانوية بتدبّر أمر تعليمه وسكنه الجامعي، فهذا «أقصى ما أستطيع إعطاءك إياه». سرعان ما سيندمج الفتى في عالم الصحافة والكتابة، ويدخل صحيفة «الشرق» التي كانت تصدر ظهراً للأحداث السياسية والتاريخية آنذاك، وتحديداً العدوان الثلاثي على مصر. أضحى الشاب «قومياً عربياً» من دون أن يدري، ومن دون انتماءٍ سوى لـ«حركة القوميين العرب» الذي كان من مؤسّسيها شأن: جورج حبش، وديع حداد، غسان كنفاني، حيدر العاملي وسواهم. أصبح «ناصر» قارئاً لسلمان عبر زاويته الأخيرة «شطحة» في مجلّة «الحوادث»، ثم التقاه في عام 1958، مع الصحافيين: سليم اللوزي، شفيق الحوت، وأحمد شومان، إذ استقبلوه في دمشق لتهنئته بالوحدة و«الجمهورية العربية المتحدة». ذلك اللقاء أفرز صورةً أثيرة لدى سلمان، زيّنت ـــ ولا تزال ـــ «قاعة إبراهيم عامر» في الطابق الرابع من مبنى «السفير».

الشمسطاري الذي عمل بدون أجر في ميدان التصحيح في صحيفة «الشرق» بداية، وصل في سن العشرين إلى سكريتاريا التحرير في «الحوادث» التي ترأّس تحريرها سليم اللوزي، وتعرّف إليه بطريقةٍ مدهشة: اعتقل اللوزي المعروف بتأييده لعبد الناصر من قبل نظام الرئيس كميل شمعون عام 1958 على إثر انتخابات أُسقط فيها: كمال جنبلاط، صائب سلام وعبد الله اليافي. كان والد طلال سلمان هو رئيس «مخفر مستشفى الكرنتينا» الذي نقل إليه اللوزي. تلك المعرفة سرعان ما ترجمت عبر دخول الشاب إلى عالم «الحوادث»، وبعدها بسنتَين انتقل من «الحوادث» إلى صحيفة «الأحد» مديراً للتحرير، وفي سنٍ يافعة، أصبح «نجماً» صحافياً عربياً. هذه «الضجة» حوله نبّهت إليه الأجهزة الأمنية، فاعتقل للمرة الأولى عام 1961، بتهمة إقامة صلات مع «جبهة التحرير الجزائرية» (وتحديداً مع أحمد الصغير جابر ممثلها آنذاك)، مع اتهامات بالتحضير لـ«انقلاب وثورة». بقيَ سلمان عشرين يوماً في الاعتقال، لكن ذلك كان أول الغيث، إذ سيتعرّض لأكثر من محاولة اغتيال، كان أكبرها وأشدّها تلك التي وقعت في 14 تموز (يوليو) 1984 أمام منزله، فأصيب في فكّه وأنحاءٍ مختلفة من جسده.

بعد الإفراج عنه، توجّه إلى الكويت التي كانت صحيفتها المعروفة «الرأي العام» قد قررت إنشاء مجلة شبه «عروبية» تحت مسمّى «دنيا العروبة». هذه التجربة، التي لم تدم إلا أشهراً، اعتبرها سلمان بمثابة «تجربة عظيمة» عرّفته على العمل «الإداري» الصحافي ومختلف مجالات الإنتاج المطبوع، مشيراً إلى أنّه «لم يتسنّ لي حصد ثمار تعبي، فاضطرّتني بعض الوشايات ذات الطابع السياسي الى مغادرة الكويت، بجواز سفر بدل من ضائع وتذكرة استدنت ثمنها من صديق، وعدت الى بيروت عاطلاً عن العمل». هذه العطالة لم تدم طويلاً. سرعان ما يمّم شطر تجارب ثقافية شديدة الأهمية آنذاك: مجلة «الصياد»، و«الحرية» مجلة «حركة القوميين العرب». «الصياد» مع ناشرها اللبناني السوري سعيد فريحة، أعطته الكثير من معرفته وعلاقاته واتصالاته، و«الحرية» التي ترأّس تحريرها محسن إبراهيم، ضمّت اثنين من أهم المثقّفين الفلسطينيين: الشهيدان غسان كنفاني ورسام الكاريكاتور ناجي العلي. هذا العالم العربي سرعان ما سيصبح بمثابة «الذخيرة» و«البوابة» التي سينفذ من خلالها مشروعه الأهم: «السفير» ذات النفَس القومي العروبي التي صدر عددها الأوّل في 26 آذار (مارس) 1974 تحت شعار «صوت الذين لا صوت لهم». آنذاك فُتِنَ بتصميم شعار الصحيفة الوليدة الذي صنعه الفنان المصري المعروف حلمي التوني على شكل حمامة ذات لون برتقالي. الحمام هو حامل الرسائل، والبرتقال يعني الشام وفلسطين، «كانت فرحتي كبيرة جداً لأنه رفع عن كاهلي همّ الواجهة الأساسية التي ستعبّر عن روح الجريدة».

يومها، صدر العدد الأوّل من الصحيفة متضمّناً لقاءً مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وكان لافتاً أن الصحيفة في عددها الثاني كانت عرضةً للإغلاق، بعدما رفعت جمعية المصارف في لبنان دعوى قضائية ضدّها، لتصل عدد الدعاوى المرفوعة إلى 16 في العام الأوّل فقط. لم تكن تلك المرّة الأولى التي جرت فيها محاولة إسكات الجريدة: في تشرين الثاني (نوفمبر) 1980، فُجّرت المطابع في المبنى الجديد للجريدة، وفي العام التالي جرت محاولة لنسف منزله بأربع قذائف موقوتة لم تنفجر، وألقيت عبواتٍ ناسفة مرتين عام 1984، فيما قُصفت الجريدة مع بداية عام 1985 بصاروخ موجّه. كل هذا لم يثنِ طلال سلمان عن قوله ما يريد، إذ يكفيه عنوانه الشهير «بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء» إبّان الاجتياح الصهيوني عام 1982.

حافظ سلمان على نفَسٍ عروبي شديد الأصالة، ولم يحد عن ذلك التوجّه، معتبراً أنّ العروبة لا تكون بالكلام فحسب، بل بفتح صفحات الجريدة، كما روحها، على أقلامٍ عروبية أمثال عبد الرحمن منيف، عصمت سيف الدولة، سعد الله ونوس، طارق البشري، رفعت السعيد، عبد الرحمن الخميس، كلوفيس مقصود، وغيرهم كثرٌ ممن طردتهم أنظمتهم واضطهدتهم واحتضنتهم «السفير»، مسهمةً بذلك في نهضة بيروت الثقافية والإعلامية والفكرية.

لطلال سلمان، كما حياته المنهكة، المضنية، والمليئة بالعناوين والتواقيت والتواريخ المدهشة، أثرٌ لا نهاية له، لأسبابٍ كثيرة، هو الذي قال عن الصحافة بأنّها «الأرض الصالحة التي توحّد الناس حول قضاياهم وهمومهم وأفكارهم وطموحاتهم المشتركة».