مَن عايش مرحلة الاقتتال الداخلي في لبنان وحروب الآخرين على أرضه، وكلّ ما سبقها وتلاها من حقبة ما بعد «الطائف» وتحرير الجنوب للوطن والانتفاضات الفلسطينية، وصولاً إلى «الخريف» العربي وأفول أنظمة عربية مع دولها وبدايات الحرب على سوريا، لا يسعه إلا أن يذكر طلال سلمان (1938 – 2023) و«جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان» التي أصدرها طوال 42 عاماً. ورغم غياب «السفير» مع وداع الساعة الأخيرة من عام 2016 بعد محاولة احتجاب سابقة تأجّلت أشهراً، إلّا أنّ الراحل أكمل مسيرته «على الطريق» حتى انطفأ أمس تحت وطأة المرض.لا تبدأ الحكاية في 26 آذار (مارس) 1974 يوم صدرت «السفير»، لكنّ هذه المحطّة المفصلية أعطت للعودة إلى البدايات نكهةً مغايرة، وربّما استعادت تأريخ المحطّات السابقة وترسيخ المحطّات اللاحقة؛ فنتخيّل فتى بعلبكيّاً ريفيّاً من شمسطار يحزم طموحاته وتطلّعاته وعروبته في حقيبة أحلامه، والدنيا زمن مدّ ناصري بعد نكبة 1948 وما استنسلته من قضايا، وزمن دوَل عربية استقلت وأخرى تناضل للاستقلال، وزمن العدوان الثلاثي على مصر، وزمن الانقسام كالعادة على محورَين متضادَّين وربّما أكثر، وزمن حلف بغداد لـ«صدّ المدّ الشيوعي»، وزمن الـ 1958 بوحدة مصرية – سورية وثورتَين عراقية ولبنانية ووصول قائد الجيش اللبناني العلماني المعتدل فؤاد شهاب إلى سدّة الرئاسة خلفاً للرئيس كميل شمعون المحسوب على حلف بغداد والغرب...
في زمن النضال وإعادة صياغة الشرق والحوادث العنقودية هذا، يقصد فتى ريفي مدينة كوسموبوليتية حبلى بإرهاصات القضايا، ويباشر إقامة طويلة في مهنة المتاعب يستهلّها في أواخر خمسينيات القرن الماضي، مصحّحاً في جريدة «النضال»، فمراسلاً صحافيّاً في جريدة «الشرق»، ثمّ محرّراً وسكرتيراً للتحرير في مجلّة «الحوادث» لصاحبها الصحافي الشهيد سليم اللوزي الذي اغتيل عام 1980، فمديراً للتحرير في مجلّة «الأحد» التي أسّسها نقيب الصحافة الشهيد رياض طه سنة 1950، محقّقاً قفزة صحافية مميّزة بملاحقها وتبويبها. وقد اغتيل طه في 23 تموز (يوليو) 1980 أيضاً، في السنة ذاتها التي تعرّضت فيها مطابع «السفير» للتفجير في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 1980، قبل أن يتعرّض طلال سلمان، بسبب صلابة موقفه، لمحاولات لتفجير منزله «تُوّجت» في 14 تموز 1984 بمحاولة اغتياله أمام منزله في رأس بيروت، ما ترك ندوباً في وجهه وصدره، بالإضافة إلى ملاحقته من السلطات وسجنه مرّات عدّة بسبب آرائه ومواقفه الجريئة.
وضع الراحل الحجر الأساس في الإعلام العربي الحديث


في خريف 1962، غادر طلال سلمان لبنان إلى الكويت ليصدر مجلّة «دنيا العروبة» عن «دار الرأي العام» لصاحبها عبد العزيز المساعيد، إلا أنّ ذلك لم يدم أكثر من ستّة أشهر، عاد بعدها سلمان إلى بيروت ليعمل مديراً للتحرير في مجلّة «الصياد» لصاحبها سعيد فريحة، ومحرّراً في مجلّة «الحرية» الأسبوعية السياسية العربية التي كانت لسان حال حركة القوميّين العرب منذ 1959، وأصبحت بعد نكسة 1967 ناطقة باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ثم باسم «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» و«منظّمة العمل الشيوعي اللبناني» على إثر انشقاق 1969 في صفوف القوميّين العرب. هذه المجلّة انضمّ إليها الصحافي غسان كنفاني سنة 1961، وهو من بين شهداء الصحافة الجريئة الذين سقطوا أيضاً في بيروت وضواحيها، وقد اغتيل في 8 تموز 1972.
سنة 1974، وقد بلغ الشاب البعلبكي السادسة والثلاثين، أينعت تجربته التي بدأت أواخر الخمسينيات مغامرةً جريئة ستمتدّ حتى نهاية سنة 2016. ففي 26 آذار (مارس) 1974، أصدر العدد الأوّل من «السفير» في بيروت، ليبدأ بذلك النصف الآخر من حياته المهنية كما تجربة صحافية حدّثت معالم المهنة ومقارباتها. أُطلقت «السفير» على أنّها «يومية سياسية مستقلّة»، وحملت شعار «جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان» كما شعار «صوت الذين لا صوت لهم»، وحاول سلمان إظهار استقلاليتها قدر الإمكان. طوال أكثر من أربعة عقود، شكّلت الجريدة مرجعية إعلامية في الشؤون العربية واللبنانية تحظى بالتقدير وبالتأثير في الرأي العام. تضمّنت صفحاتها الأخبار والتغطية الميدانية للأحداث في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والرياضة والترفيه، بالإضافة إلى التحقيقات الميدانية والعلمية والبيئية.
أعطت «السفير» أهمّية للأحداث اللبنانية التي لم يتناولها الإعلام المهيمن، كما للقضية الفلسطينية، واشتهرت بنشرها كاريكاتورات «حنظلة» للرسّام الفلسطيني الكبير ناجي العلي. واستمرّت في حمل لواء شخصية «حنظلة» ومبدعها بعد استشهاد ناجي العلي، كما في حمل لواء قضية فلسطين وقضايا العرب في افتتاحيات سلمان كل اثنين وفي كل ثنية من ثنايا الصحيفة.

(أرشيف)

وكان لجيل الشباب إضاءة خاصّة، فحظي بملحق في الجريدة تحت اسم «شباب». الملحق الذي كان قوام فريق عمله شباباً جامعيّين، أعاد فتح النقاش حول قضايا منسيّة تتعلّق بالمهمّشين، منتجاً فورة في الأوساط السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما دأبت «السفير» لفترة على نشر ملحق «كتاب في جريدة» مع أعدادها، كان عبارة عن كتاب أسبوعي مجّاني ضمن سعيها لنشر الثقافة بيَد الجميع إيماناً منها بحقّ وصول مختلف طبقات المجتمع إلى المعرفة.
أفاق اللبنانيّون والعرب على عام 2017 من دون «السفير» بعد معاناتها من مشاكل جمّة، واعتبر ناشرها أنّها «تغيب... ولا تنطفئ». بعد مسيرة «السفير» الحافلة، خصّص وقته لخوض تجربة جديدة مع موقعه الإلكتروني الخاصّ الذي حمل اسمه، فنشر مع عدد من الزملاء وأصدقاء «السفير» مقالات أسبوعية تحت شعار «على الطريق»، واستمرّ في كتابة المقالات التحليلية حتّى الرمق الأخير. ويستمرّ الموقع تأكيداً على أنّ طلال سلمان يغيب ولا ينطفئ.
هكذا، تُطوى إحدى الصفحات الأخيرة لحقبة لن تعود من الصحافة اللبنانية والعربية. مع ذلك، وضع الراحل الحجر الأساس في الإعلام العربي الحديث، وسيبقى تأثيره حاضراً في أوساط المهنة مباشرةً أو مداورةً، بما ينفي نسبيّاً ما ذهبت إليه الجريدة في مانشيتها الأخيرة قبل احتجابها: «الوطن بلا السفير»، وينفي اليوم نسبيّاً ما قد يتبادر من تنويع على المانشيت المذكورة بالقول إنّ «الوطن بلا صاحب السفير».