عندما كانت الحكومة تناقش مشروع قانون الموازنة لعام 2023، لم يكن بعض ممثلي الهيئات والروابط في القطاع العام قد بلوروا أيّ تحرك متزامن ضد البنود المجحفة في المشروع، فيما حالت السرعة في إقراره، خلال جلسة واحدة، دون اتخاذ أي موقف تصعيدي. إلا أن بعض الهيئات والروابط، ومن بينها «اللقاء التشاوري للهيئات والقيادات النقابية»، ستستكمل اجتماعاتها واستعداداتها في الأيام المقبلة في محاولة لإسقاط ما سمّاه «اللقاء» المواد «التدميرية» التي تطاول حقوق الموظفين في القطاع العام والجامعة اللبنانية والمتقاعدين من الأسلاك العسكرية والمدنية.القيادات النقابية لم تكن، بحسب النقابي محمد قاسم، بالجاهزية الكافية لمواجهة الخطر الجدي للموازنة على مصير القطاع العام ومؤسساته من جهة، وعلى رواتب ومعاشات الموظفين والمتعاقدين والمتقاعدين المدنيين والعسكريين من جهة ثانية، علماً أن الرواتب مع المساعدتيَن الاجتماعيّتَين والتعويض المؤقت تشكل أقلّ من 12 في المئة عما كانت عليه قبل الأزمة. إلا أن اللقاء التشاوري أبقى على التنسيق المشترك مع جميع ممثلي الهيئات والقيادات النقابية في محاولة لمواجهة البنود في مجلس النواب (وربما ذلك متعذّر لعدم صلاحية المجلس في زيادة الاعتمادات في الموازنة المحوّلة من الحكومة)، في حين أن نقاش موازنة عام 2024 بات على الأبواب (أوائل أيلول)، و«الذي يتوقع أن يكون نسخة منقّحة من موازنة عام 2023، لجهة عدم تضمينها اعتمادات لتصحيح الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية».
اللقاء يتوقف بصورة أساسية عند البنود التي تعتمد على فرض مزيد من الضرائب كمصدر لتمويل نفقات الدولة. ومع أن البند 43 المتعلق بزيادة الرسوم بين 30 و50 ضعفاً عما كانت عليه في عام 2019 «رُحّل» من موازنة عام 2023، إلا أن أحداً لا يضمن أن لا يطلّ برأسه من جديد في موازنة عام 2024، في مقابل تجميد الرواتب والمعاشات التقاعدية لسنة جديدة بغياب الاعتمادات، وإقرار زيادة الرسوم 7 أضعاف للكهرباء والمياه والهاتف والاتصالات وغيرها من الخدمات.
أما الزيادة التي حصل عليها الموظفون والمتقاعدون فتراوحت بين 6 أضعاف لمن هم في الخدمة و5 أضعاف للمتقاعدين، فيما ضرب عرض الحائط بالتماثل في إقرار الزيادات بين القطاعات وبين من هم في الخدمة والمتقاعدين. فإعطاء التعويض المؤقت أرسى، بحسب العميد المتقاعد أندريه أبو معشر، «تمييزاً وتفضيلاً فاضحين، بين حقوق المتقاعدين عموماً وحقوق موظفي الخدمة في القطاع العام، إذ منح موظفي الخدمة حداً أدنى لا يقل عن 8 ملايين ليرة، فيما حجب هذا الحق عن المتقاعدين، إضافة إلى أنه منح موظفي القطاع العام 4 رواتب إضافية، فيما منح المتقاعدين 3 معاشات، فضلاً عن التمييز بين حقوق عسكريّي الخدمة وحقوق موظفي الخدمة في القطاع العام، إذ منح العسكري 7 ملايين ليرة كحد أدنى لمجموع ما يتقاضاه و3 رواتب إضافية، فيما منح بالمقابل موظف القطاع العام 8 ملايين ليرة كحد أدنى رواتب إضافية».
أمر أساسي آخر، ينبّه إليه قاسم، هو ضرورة إدخال المساعدتَين الاجتماعيّتَين والتعويض المؤقت في صلب الراتب خلافاً للمادتين 80 و81 من الموازنة والمرسوم نفسه الذي ينص صراحة على اتّسام هذا التعويض بالطابع الاستثنائي. وبالتالي، يمكن في أيّ لحظة أن تعمد الحكومة إلى إلغائه، علماً أن أيّ موظف مدني أو عسكري لن يستفيد من هذه الزيادة عند التقاعد. كذلك لا تلحظ الموازنة اعتمادات لأيٍّ من الهيئات الضامنة ولا سيّما لتعاونية موظفي الدولة وصناديق التعاضد، بما يتصل بالخدمات الصحية والاستشفائية والمنح، كما لم ترصد الاعتمادات الكافية لكلفة الانتقال إلى العمل ومنه، رغم الإضراب المفتوح للإدارة العامة المستمر منذ 6 أشهر وإضراب الأساتذة الرسميين الذين عجزوا عن تغطية أكلاف انتقالهم إلى مدارسهم، ما عطّل العملية التربوية وكاد يطيح العام الدراسي برمته.
قاسم يلفت النظر أيضاً إلى خطورة استخدام أموال الاحتياط الإلزامي (أموال المودعين)، مشيراً إلى أن «الحاكم الجديد لمصرف لبنان، وسيم منصوري، يقول إنه لن يصرف من احتياط الموازنة إلا بموافقة مجلس النواب ويطالب بـ 200 مليون دولار شهرياً لمدة 6 أشهر، أي مليار و200 مليون دولار، ليغطي الأكلاف، بحجة الرواتب والمعاشات التقاعدية، علماً أن مجموع رواتب الموظفين وملحقاتها والمعاشات التقاعدية لا تتجاوز 40 إلى 50 مليون دولار شهرياً، أي أنها تبلغ نحو 300 مليون دولار حتى آخر عام 2023، فيما يطلب منصوري أربعة أضعاف، ستذهب إذا أقرّت في المجلس النيابي إلى المصارف وبعض المسؤولين، وليس إلى موظفي القطاع العام والمتقاعدين».
وكان هناك تحذير من استخدام المادة 34 المتعلقة بتأجير أملاك الدولة والتي قد تتحول إلى وضع اليد على هذه الأملاك، وخصوصاً أنها تعطي الحق للذين لديهم إنشاءات على هذه الأملاك 18 سنة استئجار، بينما قانون الإيجارات السكنية مدته 3 سنوات فقط.
موظفو الإدارة العامة منخرطون أيضاً في تحرك القطاع العام وسيستخدمون، كما تقول رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر، «كل الوسائل الممكنة؛ ومنها التواصل مع الكتل النيابية والطعون القضائية لمنع القضم الممنهج للرواتب وتعويضات الصرف، وخصوصاً أن هناك اقتناعاً بأن الأموال متوفرة». وعن فعالية إضراب الإدارة، تشير نصر إلى «أننا أعلنا منذ البداية أنه إضراب قسري يعبر عن الاحتجاج على الرواتب وعدم القدرة على الوصول إلى العمل»، مذكّرة بأن إعطاء التعويض المؤقت (4 رواتب) مشروط بالحضور 14 يوماً.
مواجهة البنود في مجلس النواب متعذّرة لعدم صلاحية المجلس بزيادة الاعتمادات في الموازنة المحوّلة من الحكومة


رئيس رابطة المعلمين الرسميين، حسين جواد، حضر اجتماع اللقاء التشاوري، أخيراً، لافتاً إلى أن هموم القطاع العام واحدة والروابط ستنسّق في ما بينها لمنع استباحة الحقوق. فيما كانت للعسكريين المتقاعدين المشاركين في اللقاء مطالب خاصة عبّروا عنها من خلال المنبر القانوني للدفاع عن حقوق العسكريين المتقاعدين. أبو معشر طالب بتعديل مشروع الموازنة من خلال اعتماد وحدة المعايير في تحديد الحقوق وقواعد منحها بشكل لا يخلق تمييزاً أو تفاضلاً غير دستوريّين بين موظفي القطاع العام والعسكريين وبين الموظفين والمتقاعدين وبين مختلف الفئات، «تطبيقاً للمادة 79 من قانون الدفاع الوطني والمادة 12 من نظام التقاعد والصرف من الخدمة اللتين حددتا بوضوح قيمة المعاش التقاعدي للموظف بـ 85 في المئة من قيمة راتب موظف الخدمة الذي يعادله في الفئة الوظيفية والدرجة، وبالتالي فإن حرمان المتقاعد من معاش إضافي، يجعل قيمة مجمل المعاش التقاعدي نحو 60 في المئة من قيمة راتب نظيره في الخدمة، وهذه مخالفة دستورية وقانونية». كما دعا إلى إنصاف ذوي الرواتب الدنيا من المتقاعدين من خلال إقرار حدّ أدنى للمساعدات الاجتماعية الممنوحة لهم، على ألّا تقلّ قيمتها عن 8 ملايين ليرة أسوة بما أقرّ لمصلحة موظفي الخدمة الفعلية، بحيث يصبح الحد الأدنى لجميع الموظفين والمتقاعدين 13 مليون ليرة.
ومن المفارقات التي تحدث عنها أبو معشر، أن يجاز لوزير المال، وفقاً للأوضاع الاقتصادية، أن يحدد قيمة الرسوم من دون العودة إلى الحكومة أو المجلس النيابي، فيما لم تعتمد الحكومة، وفق المبدأ نفسه، مؤشر غلاء متحرك كل 6 أشهر مثلاً لضمان المحافظة على القيمة الشرائية لرواتب موظفي القطاع العام ومتقاعديه في حال طرأ أي تدهور مستقبلي على سعر صرف العملة. ولفت إلى أن الحكومة لم تقم بالجهد اللازم لتجبي ضرائب لا تؤثر على أصحاب الدخل المحدود، فبدلاً من أن تزيد الرسوم 30 ضعفاً، كان بإمكانها مكافحة التهرب الضريبي والفساد والهدر، وتحسين الجباية وفرض الرسوم على الأملاك البحرية، وغيرها من الإجراءات الضريبية، القادرة على توفير الإيرادات من دون تحميل المتقاعد عبء الرسوم والضرائب الخيالية.