لم تعد الطائفية أزمة أو عيباً في الخطاب السياسي اللبناني. باستثناء قلّة قليلة من جماعة «الخطاب الخشبي»، لا أحد، تقريباً، يقارب الطائفية كسبب رئيسي لأزمة النظام. الآن، انحدرت مشكلات النظام في الخطاب العام، إلى محاربة نتائج الفساد والاتفاقية مع صندوق النقد الدولي، واللامركزية. على أساس أن المركزية أخذت فرصتها، وحقّقت نتائج «باهرة»، بانهيار الدولة وإفقار اللبنانيين. وهل توقّع اللبنانيون نتائج مختلفة؟ فنظام ما قبل الحرب كان فاسداً أيضاً، لكن مع موارد أكبر وعدد سكّان أقلّ، ولم ينتج سوى الحرب الأهلية. ماذا يمكن التوقّع من نظام الطائف الذي لم يُطبّق منه شيء؟ النظام اللبناني هو كل شيء إلّا نظاماً مركزياً، قبل الحرب وبعدها.على علّاته، شكّل الطائف نقلة في النظام، بتبنّيه إلغاء الطائفية السياسية كمدخل للإصلاح السياسي. لكنّ أولئك الذين يبحثون عن حلول اليوم، وعن استكمال تطبيق الطائف، أهملوا كل ما يختصّ بإلغاء الطائفية، وانتقلوا إلى البنود التي تناسبهم. يبحثون عن شكل نظام من دون روح. هل في روح النظام مشروع لتوحيد اللبنانيين؟ توحيد مصالحهم وحياتهم؟ أو تعزيز انقساماتهم؟ وهل إذا تحوّل اللبنانيون إلى مواطنين بالفعل، يفقد زعماء القبائل أدوارهم؟
تُقارب الغالبية «البراغماتية»، اليوم، الموقف السياسي، من باب المصلحة الآنية، والتي هي المنفعة. الخطاب الطائفي مسموح، فذلك يندرج ضمن عدّة الشغل. تطبيع كامل مع الطائفية، والجميع يقدّر للجميع أن الغاية تبرّر الوسيلة. يقولون إن ذلك لـ«شدّ العصب». جناية، عذرها معها، بتعزيز الخوف عند الجماعة. «أنا طائفي وأفتخر» شعار المرحلة. مع ذلك، لا يزال البعض يراهن على نتائج مختلفة. عندما تقع الحرب الأهلية المقبلة، سيسألون، كيف ولماذا؟
في عام 2018، فُصّل قانون الانتخاب على قياس الطوائف، وقُسّمت مدينة بيروت إلى شطرين، شرقية وغربية. اليوم، يبدون الدهشة حيال مطالب تقسيم بلدية العاصمة.
مناسبة هذا المقال، الحديث عن مطالب للتيار الوطني الحرّ من حزب الله، تتعلّق بضمانات لتطبيق اللامركزية الإدارية (والمالية) الموسّعة، وفورة الحديث عن الفدرالية. طيب، ما هي ضمانات التيار الوطني الحرّ بتطبيق تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وإقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي كما ينصّ اتفاق الطائف؟ ليس التيار الوطني الحر وحده من يطالب باللامركزية، لكنّه الصوت الأعلى اليوم. قوى 14 آذار، ما عدا البعض في تيار المستقبل، تنادي باللامركزية كقناع للتقسيم، بحجّة سلاح المقاومة، كما تفعل القوات اللبنانية والكتائب. بعض النواب الجدد أيضاً يتبنّون هذا الطرح لاعتبارهم أنه آخر صيحات الليبرالية الغربية، ويمثل باعتقادهم الحل لكل أزمات الشرق. هؤلاء صعدوا على أكتاف «الصليب يعانق الهلال» في 17 تشرين، ثمّ تحوّلوا إلى متحدّثين باسم طوائفهم. كيف غاب إلغاء الطائفية عن مطالب الجميع؟
إذا لم يكن إلغاء الطائفية هو أساس الإصلاح السياسي، ما هو الإصلاح السياسي إذاً؟ فلنعترف، لقد عجزنا عن بناء الوطن، فصار مطلبنا الوُطَين، وهذه حلول العاجزين والكسالى والجبناء.
هكذا، مئة عام من النضال ضد الطائفية وتشخيصها كعلّة في النظام السياسي، كأنها لم تكن. الدولة تنهار والنظام الطائفي يتماسك بتجديد العهد بين القبائل. الحرب الأهلية، الضحايا، الدمار، التهجير، كلّ ذلك طُمس من التاريخ السياسي اللبناني، بقيت الأحقاد وغابت الدروس والعبر وحلول المستقبل. من نحن؟