اللامركزية، بشكل عام، هي نقل المهام والسلطات من السلطة المركزية إلى السلطات المحلية، الموزّعة على الأقضية في حالة لبنان. تنقسم اللامركزية إلى لامركزية سياسية ومالية وإدارية. المشكلة في لبنان أن العيوب الموجودة في المركز لن تزول عندما تُعتمد اللامركزية الإدارية. بل المرجّح أن تتوزّع هذه العيوب على السلطات المحلية (الفساد، الزبائنية، الطائفية...). والشواهد على هذا الأمر عديدة، إذ يمكن الاستخلاص من بعض الأوراق البحثية، التي تربط تطبيق اللامركزية بارتفاع احتمالات الفساد وانخفاض جودة الخدمات الصحية والتعليمية.وتشير هذه الأبحاث إلى أن اللامركزية يمكن أن توسّع الهوة بين الفقراء والأغنياء من خلال تمركز الثروة في المحافظات الملائمة لها، وهو ما يتحدث عنه ريمي برودم في ورقته «مخاطر اللامركزية» التي نشرها البنك الدولي عام 1995. ويكمل برودوم أن النظام اللامركزي، بنقله السلطة إلى السلطات المحلية، على عكس ما هو متصوّر، يقلّل من التجاوب تجاه المقيمين من قبل المسؤولين نتيجة السماح بانتشار الفساد المحلي. وهو ما يمكن استخلاصه من التجربة الإندونيسية، حيث لم يحدّ تطبيق اللامركزية من مشكلة الفساد، لأن النموذج افتقد إلى الأدوات اللازمة للحد من انخراط النخب السياسية في أعمال الفساد. بمعنى آخر، تحتاج اللامركزية إلى أدوات إضافية تصوّب على مشاكل مثل الفساد لتستطيع حلّها، وإلا هي ليست أداة بحد ذاتها لتحارب هذه المشاكل.
في مشروع قانون اللامركزية الإدارية الذي عملت عليه اللجنة التي ترأّسها الوزير السابق زياد بارود، والذي يشكّل محور الحوار بين التيار الوطني الحر وحزب الله، تظهر إشكالات في الشق الإداري والمالي، منها ما يتعلق بعدد الأقضية. إضافة إلى صلاحيات مجالس الإدارة في ما يخص «التقاضي»، ما يعني إنشاء جهاز شرطة على مستوى القضاء الذي يُعتبر من عداد الضابطة العدلية، من دون أن يوضح المشروع آلية عمل هذا الجهاز، ومرجعية الأوامر والمهام.
وفي موضوع الإقامة تجدر الإشارة إلى أن من يحق لهم الاقتراع في مجالس الأقضية هم المقيّدون في لوائح الناخبين وليس المقيمين، إلا أن القانون يشير إلى أن من يثبت أنه مقيم في نطاق معين ويسدد الرسوم والضرائب البلدية من دون انقطاع لمدة ست سنوات يمكن أن يمارس حق الاقتراع. وهذا الأمر له شقّ مالي أيضاً. فكيف تتم عملية جباية ضرائب الدخل وما هي الآلية التي ستُعتمد: هل يُعتمد مركز سكن الأجير أم مكان عمله؟ لأن في لبنان الكثير من الموظفين الذين يتنقّلون بين المناطق إلى أماكن عملهم، ومنهم من يعيش في الأطراف ويقصد العاصمة يومياً، ومنهم من يتنقّل بين الأطراف، ما يوجب توضيح عمليّة جباية الضرائب على دخل هؤلاء وأي قضاء يستفيد منها؟
تربط أوراق بحثية تطبيق اللامركزية بارتفاع احتمالات الفساد وتراجع جودة الخدمات الصحية والتعليمية


أمر آخر، يتعلق بحجم واردات الصندوق اللامركزي في ظل الأزمة المالية الحالية؟ إذ بحسب أرقام موازنة عام 2023 تبلغ إيرادات الصندوق اللامركزي نحو 155 مليون دولار، وهو رقم ضئيل نسبة إلى الناتج المحلّي بنسبة نحو 0.9%، في حين أن مشروع بارود يقول إن هذه الإيرادات يجب أن تبلغ 2%، والمعدّل العالمي نحو 3%. وللمقارنة، فقد بلغت ميزانية بلدية بيروت عام 2015 نحو نصف مليار دولار، أي أكثر بـ 3 مرات إيرادات الصندوق اللامركزي المحتملة اليوم، وهي أموال مخصّصة لكل الأقضية.
كذلك هنالك مشكلة في المعايير المعتمدة لتوزّع الحصص، اذ يعتمد مشروع بارود على جداول إحصائية بعدد سكان المدن والقرى، استناداً إلى أرقام وزارة الداخلية والبلديات - المديرية العامة للأحوال الشخصية (أيار 2013). وبحسب هذه الأرقام، على سبيل المثال، فإن حصة قضاء دير الأحمر، الذي يبلغ عدد سكانه نحو 67 ألفاً، هي 3%، بينما حصة قضاء طرابلس الذي يبلغ عدد سكانه نحو 354 ألفاً هي 2%. لأن مساحة دير الأحمر أكبر. الفكرة هنا هي أن مؤشّر المساحة يأخذ نفس وزن مؤشّر عدد السكّان، وهو أمر يثير تساؤلات حول عدالة هذا التوزيع.
كما أن المعايير المذكورة في المشروع تعتمد على التنمية الاقتصادية وجباية الضرائب كمؤشّرين يمثّلان 80% من تخصيص حصص الأقضية. فالأقضية التي لا تمتلك نسب جباية مرتفعة تنخفض حصتها من إيرادات الصندوق اللامركزي. ولكن إذا كان الهدف من اللامركزية هو تحسين أوضاع القرى والمدن، لماذا نعتمد معايير تقول إن القضاء الذي يفشل في جباية الضرائب على سبيل المثال تنخفض حصته من مؤشر تحصيل الرسوم، أي من حصته الإجمالية من الصندوق، بدل مساعدته على معالجة أسباب المشكلة ؟
من ناحية أخرى، كيف يمكن أن نعوّل على اللامركزية لحل المشاكل التي يعاني منها لبنان إذا كانت مشاكل بنيوية لا تتعلّق بمركزية النظام الإداري من عدمه. لأن الأزمة التي تعاني منها الدولة اليوم تتعلّق بشح الموارد، وقد انخفض حجم موازنة الدولة بشكل كبير بعد الانهيار. لذلك فإن توزيع الإيرادات على الأقضية ليس حلاً يساهم في انتشال القطاع العام من الحضيض الذي وصل إليه. فإيرادات الدولة لا تزيد حالياً على 1.6 مليار دولار.
أما في موضوع التوزيع وإعادة التوزيع، فإن مشروع بارود يركز على التوزيع، إلا أنه لا يلحظ إعادة التوزيع بشكل صحيح. فهناك الكثير من الأمثلة عن أرباح شركات ومؤسسات تُسجّل في المركز (بيروت)، في حين أنها تكوّنت في أماكن عدّة. على سبيل المثال المصارف التي تتركز في بيروت، وتتوزّع فروعها في كل أقضية لبنان. هذه المصارف راكمت القيم المضافة التي تُشكّل أرباحها في كل أنحاء لبنان، بينما تدفع ضريبتها على هذه الأرباح في بيروت. في هذه الطريقة، يُعاد توزيع الثروة بشكل يُركّزها في العاصمة، وهو ما يزيد من هوّة اللامساواة بين الأقضية، ولا سيّما بين المركز والأطراف.