لم يكن في الأساس خطاباً. كانت خطبة عاشورائية دينية، يتكرر ما يشبهها في المضمون في معظم المراكز الدينية من كنائس وأديرة ومساجد وحسينيات: يتحدث رجال الدين عن المثلية الجنسية بوصفها شذوذاً عظيماً ينبغي على المؤمنين تجنّبه وتحذير مجتمعهم منه، ويمرّ الأمر مرور الكرام. لم تكن هذه المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، لكن المتحدث هذه المرة كان رجل دين «خاصاً»: كان الرجل الذي لا يفترض تفويت خطاب له أو إشارة من يده من دون ردود تحريضية وصخب. هكذا، اندفع من يعنيهم الأمر ومن لا يعنيهم إلى إخراج الكلام من سياقه في خطبة دينية، والانشغال به عن أيّ أمر آخر.هنا يمكن التوقف عند مسألتَين أساسيّتَين:
أولاً، إن المجموعات المؤيدة لتشريع المثلية تعمل بحرّية شبه مطلقة في البلد منذ أكثر من عقدين من دون أيّ قيد أو شرط من دون أن تقابلها حملات لمكافحة المثلية أو مواجهتها. لم تقابل الحملة لتعديل المادة 534 من قانون العقوبات أو إلغائها حملة مضادة للتشدد في تنفيذها. مقابل كل حملات الدفاع عن المثلية، ليس هناك أكثر من عظات دينية محدودة وتغريدة من هنا أو هناك لقلّة ممن يتعاطون في الشأن العام. لم يكن ثمة توازن أبداً بين من يروّج للمثلية ومن يحذّر منها. ولسنوات، كانت المادة 534 من قانون العقوبات «تبكي في الزاوية»، لم يسمع بها القضاة ولم يجدوا من يراجعهم بشأنها: من هذا الذي سيدّعي على شخص بـ«المجامعة خلافاً للطبيعة» ويحاول إثبات ذلك أمام القضاء ليطلب الحبس له «حتى سنة واحدة»، كما تنص المادة. وإذا حدث أن وقع إشكال ما (كما حصل آخر مرة قبل 3 سنوات) أوقف بموجبه مثليّ أو أكثر، سرعان ما يأمر القاضي بالاكتفاء بمدة توقيفه التي يمكن وفق المادة أن تمتد من دقيقة أو ساعة أو يوم حتى سنة واحدة. أساساً. أيّ قاض سيغامر باستفزاز اللوبي الداخلي - الخارجي احتجاجاً على «مجامعة خلافاً للطبيعة»؟ وما هو الاجتهاد الذي يحدد ما هو «خلاف الطبيعة»؟ إذا اتصل أحدهم اليوم بالقوى الأمنية للإبلاغ عن حصول إشكال وتضارب في أحد الأحياء فسيكون الجواب أن يعاود الاتصال إذا حصل إطلاق نار ووقع قتلى، فكيف الحال مع التبليغ عن «مجامعة مخالفة للطبيعة» تجري داخل منازل مقفلة؟ أكثر من ذلك: من هو الضابط الذي سيغامر باستفزاز الجمعيات والسفارات التي تعتبر المثليين خطاً أحمر؟
ثانياً، ثمة مواد في قانون العقوبات تحتاج إلى تعديل أو إلغاء، لكن كيف تحدد الأولويات وعلى أيّ اساس تطلق الحملات: المادة 534 أولاً أم القوانين المالية التي تحرم المواطنين من ودائعهم؟ المادة 534 الملتبسة أم المادتان 488 و487 اللتان تنصّان على معاقبة الزوج بالحبس من شهر إلى سنة في حال الزنى، فيما تعاقب المرأة «الزانية» بالسجن من ثلاثة أشهر إلى عامين، في تكريس غريب لعدم المساواة حتى على مستوى عقوبة الزنى. تعديل المادة 534 أهمّ بالنسبة إلى نواب الثورة والحرية والتغيير أم المادة 388 التي يمكن أن تحوّل السلطة إلى ديكتاتورية مطلقة، إذ تنص على السجن من شهر إلى عام لمن يوجّه «القدح» إلى أفراد السلطة العامة؟ ما هو الأخطر: المادة 534 أم المادة 503 التي تنذر من يكره «غير زوجته» بالعنف والتهديد على الجماع بالسجن، أما الزوجة فشأن عائليّ! وفي ظل كل ما يشهده البلد من إضرابات جماعية توقف مرافق عامة حيوية وأساسية، ما هو الأهم: المادة 534 أم تعديل أم إلغاء المادة 340 التي تنص على «تجريد الموظفين من حقوقهم المدنية» في حال أقدموا متّفقين على وقف أعمالهم على نحو يعرقل سير إحدى المصالح العامة؟ المادة 534 أم المادة 533 التي تنص على السجن ثلاثة أشهر لمن أقدم على اقتناء ما يمكن أن يخلّ «بالحياء«؟
ثمّة حاجة حتمية لإلغاء القوانين العثمانية، وبعضها ينصّ على منع ارتداء الشورت مثلاً، وتعديل وإلغاء مواد كثيرة من قانون العقوبات توقّف العمل بها منذ سنوات، وتعديل وإلغاء مواد كثيرة في قانون البلديات. لكن الأساس هنا يجب أن يكون المصلحة العامة لا الانفعالات و«التزريك السياسي».
خصوم الحزب وليس الحزب هم من قرّروا أن يستنفروا ويصعّدوا على كل المستويات


على مدى عقدين، كانت هناك حملات كبيرة وهادئة تسوّق للمثلية، ولامبالاة رسمية وقانونية وشعبية، ومواقف متقطعة وغير مترابطة لبعض رجال الدين والسياسيين وقلّة قليلة من الـ«إنفلونسرز» الذين تقفل حساباتهم الافتراضية فوراً إذا عبّروا عن أي موقف معارض للمثلية. ثم، يتحدث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله فتقوم القيامة. كان بإمكان خصوم الحزب أن يتجاهلوا كلام السيد باعتباره جزءاً من خطبة دينية لا خطاباً سياسياً، فيكمل «مجتمع الميم» توسعه المتواصل منذ عقدين بعيداً عن الصخب. لكنهم قرروا غير ذلك: قرروا هم - لا هو ولا الحزب - أن يستنفروا ويصعّدوا على كل المستويات. فتحوّل الموضوع من بند ثانويّ في خطبة لم يسمعها غير المعنيين مباشرة بها إلى قضية رأي عام ينقسم البلد والأحزاب والإعلام والرأي العام بشأنها. فجأة، لم يعد ممكناً لبعض المثليين الاجتماع في هذا المقهى أو ذاك دون أن يساورهم القلق! لم يعد أي مثليّ قادراً على نشر فيديو على «تيكتوك» من دون أن يهاجمه الآلاف! ولم يعد بإمكان مثليّ أن يستفيد من ادّعاء عائلته بعدم المعرفة أو الاهتمام بميوله الجنسية! لمجرد تسجيل نقطة أو هجوم تكتيكي على الأمين العام لحزب الله، ألحق خصوم الحزب ضرراً استراتيجياً هائلاً بالمثليين على المدى القريب والمتوسط والبعيد. أنهوا بسوء إدارتهم وتقديرهم كل الاستقرار الذي كان ينعم به «مجتمع الميم». وإذا كان تعديل المادة 534 من قانون العقوبات ممكناً في السابق بطريقة هادئة ومن دون انتباه أو اكتراث من أحد، فإنه بات شبه مستحيل اليوم.
خصوم الحزب لا الحزب من جعلوا منها معركة أخرجت كل ما كان يحصل منذ عقدين من الهدوء إلى الصخب؛ من لامبالاة المجتمع إلى اهتمامه المكثف؛ ومن التآمر الضمني على عدم المواجهة إلى مواجهة مفتوحة، مع العلم أن الجمعيات المعنية لم تدخل في الحملة لمعرفتها أنها غباء بغباء يلحق ضرراً هائلاً بكل ما راكمته من إنجازات، إذ كانت ولا تزال تفضّل مواصلة العمل الهادئ من دون صخب واستفزاز. في السابق، كان يمكنها مواصلة زرع مفاهيمها الخاصة في كتاب هنا وقصة هناك، وبرنامج هنا وهناك. أما اليوم، فبات الأمر أصعب والتكلفة أكبر. منذ عام 2006، في البلد نوادٍ ليلية خاصة بالمثليين لا يعيرها أحد اهتماماً، فيما بات اجتماع بعض المثليين في مقهى اليوم يتسبب بأزمة تكاد تراق فيها الدماء. لقد أتوا ليكحّلوها فعموها بالكامل. يمكن تفهّم الغباء السياسي للبعض. ما لا يمكن فهمه أو تفهّمه هو الغباء على هذه المستويات أيضاً.