مع تقدّم التكنولوجيا التي بدأت تشارك الأهل وتزاحمهم في تربية أطفالهم وتشكّل قيمهم وقواعد سلوكهم وتؤثر على قدرتهم في التمييز بين الأخبار الحقيقية والمعلومات المضللة وبين الصواب والخطأ، وفي ظل الظروف المعيشية الصعبة التي قد تجبر الأب والأم على العمل ساعات طويلة لتوفير الاحتياجات الأساسية للأسرة، وفي ظل الإهمال والافتقار إلى الرقابة والإشراف الأسري، وصعوبة الحفاظ على علاقات صحية بين الوالدين والطفل، تنشأ أحياناً أنماط تعلّق غير آمنة بين الطفل وأقرانه بحثاً عن الحب والاهتمام والقبول والانتماء.ما تزال الأسباب الدقيقة لحدوث أنماط التعلّق غير الآمنة غير معروفة تماماً، لكن هناك عدداً من النظريات العلمية والملاحظات الطبية التي يوردها بعض المختصّين كأمثلة عن سلوكيات تربوية خاطئة قد تتسبّب في حصول التشوّه في أنماط التعلّق، نستعرض بعضها في ما يأتي.
تلفت المتخصّصة في علم النفس العيادي عضو جمعية العلوم النفسية الدولية، فاطمة الخطيب، لـ«القوس» إلى أن علاقة التعلّق بالأقران عند الأطفال (Child Peers Attachment) يمكن أن تساعد الأطفال على تطوير المهارات الاجتماعية وتعلم كيفية التعامل مع الآخرين، وعلى الشعور بالانتماء والقبول. لكن، في المقابل، يمكن أن يؤدي هذا التعلّق إلى تكوين علاقات غير صحية، بسبب عوامل عدة لا يمكن حصرها، منها: الأساليب التربوية المعتمدة داخل الأسرة، وكيفية الاهتمام والتعامل مع الأطفال منذ ولادتهم، والأنماط الوالدية والنسق العائلي وكيفية تفاعل أفراد العائلة في ما بينهم. وتضيف أن هناك عوامل متعلقة بالطفل نفسه، وأخرى متعلقة بالوالدين (أو مقدّمي الرعاية)، وعوامل غيرها تتمثل بالنضج والبيئة. وتشرح أن ما يحدد ما إذا كان تعلق الأطفال بأقرانهم آمنًا أم لا هو نمط ذلك السلوك التعلّقي الذي يمكن تصنيفه بين تعلق آمن وتعلق غير آمن.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)


التعلّق الإيجابي
تشير الخطيب إلى أن التعلق الآمن بين الطفل وأقرانه يتكوّن في حال كان مرتبطاً بالعوامل المذكورة سابقاً من ناحية إيجابية. على سبيل المثال، من خلال وجود أساليب تربية جيدة وإيجابية في المنزل، وعلاقة يسودها التفاهم والحب والاحترام بين كل أفراد الأسرة، أي إن هناك إشباعاً لحاجات الطفل الجسدية والعاطفية، فيشعر الطفل بالانتماء والقبول داخل أسرته. وكدليل على ذلك، فإن أحد جوانب التعلق -من حيث قبول الأقران أو رفضهم وتكوين علاقات الصداقة- يدخل في العديد من مقاييس الصحة النفسية للأطفال. إذاً، بشكل عام، يعدّ التعلق جيداً عندما يساهم في تطوير النمو الانفعالي والعاطفي والاجتماعي والمعرفي عند الأطفال.

التعلّق غير الصحي
لكن هذا التعلّق يكون غير صحي أو غير آمن عندما لا يستطيع الطفل الابتعاد عن أقرانه، أو في الحالات التي لا يستطيع فيها تحقيق استقلاليته، أو عندما يبدأ بالتطبّع بسلوكيات أقرانه غير الصحية والمؤذية. وتضيف الخطيب أن هذا التعلق غير الصحي يتكوّن في حال كان الدافع وراءه مرتبطاً بالعوامل المذكورة سابقاً، لكن بأسلوب سلبي، كأن تكون العلاقات الأسرية متوترة ومتقلبة، بالإضافة إلى إزدواجية معايير التربية إذ يُقابَل سلوك الطفل نفسه بردود أفعال مختلفة من الأهل. تذكر الخطيب أيضًا عوامل مهمة، مثل عدم الاستقرار وانعدام الشعور بالأمان، والإهمال، والعنف الأسري، والانتقاد الموجّه للطفل وغيره من الأساليب التربوية الخاطئة. كل ذلك يدفع الطفل للبحث عن الأمان والانتماء خارج أسرته، وعن أقران يتقبلونه كما هو. وفي هذه المرحلة قد يدخل في دائرة الخطر في حال كان أقرانه من أصحاب السلوكيات الخاطئة ما يدفعه لمجاراتهم والقيام بما يطلبونه منه كي يبقى مقبولاً بينهم ويحظى بثنائهم.
أخذ الطفل جمال «سحبة» من السيجارة خشية إقصائه خارج مجموعة أقرانه


تتحدث الخطيب عن أسباب أخرى قد تجعل الأطفال يلجأون إلى أقرانهم لأخذ النصائح والتوجيهات واعتبارهم «قدوة»، كغضب الأهل وانفعالاتهم تجاه الطفل وعدم تفهمه عندما يلجأ إليهم بعد وقوعه في مشكلة ما أو عند مواجهته أياً من المواقف الحياتية الجديدة بالنسبة إليه. فعندما يواجه الأهل (أو مقدّمو الرعاية) الطفل بردود أفعال مغايرة لتوقعاته، وقد تكون هجومية أو عنيفة، يشعرونه بالذعر، فيتوجه إلى أقرانه كونهم يتقبلونه أو يستمعون إليه من دون أي أحكام، فيرى فيهم الملجأ الآمن.

بيئة جنائية
تقول الخطيب إن البيئة الحاضنة للجريمة في لبنان باختلاف أنواعها قد تزيد من العواقب الخطرة للتعلّق غير الصحي بالأقران، لا سيّما أن البيئة في لبنان قد تساهم في ازدياد خطر انخراطهم في السلوك الإجرامي وتطويره (راجع «القوس»، 6 أيار 2023، «الأطفال في قبضة العنف والانحراف») في ظل النشاط الجنائي المتزايد للمراهقين، لافتةً إلى أن التعلّق غير الآمن يمكن أن يدفع الأطفال إلى القيام بسلوكيات خطرة أو مخالفة للقانون. علماً أن ليس كل الأطفال المتعلقين بأقرانهم سيرتكبون جرائم، ومع ذلك يبدو أن هذا التوجه عامل خطر للنشاط الإجرامي، لأنهم أكثر عرضة للتأثر بهم والامتثال لتوقعاتهم. (راجع «القوس»، 8 تشرين الأول 2022، «أطفال ومراهقون في الشوارع... صناعة البيئة الجنائية»).

يلجأ الأطفال إلى أقرانهم لأخذ النصائح والتوجيهات باعتبارهم «القدوة» بعد غياب احتضان الأهل


دائرة الأمان
تشير الخطيب إلى أن تكوين روابط صحية بين الوالدين وأطفالهما يمكن أن يساهم في الحفاظ على علاقة آمنة بين الطفل وأقرانه ويحميه من التعلّق المرضي، وذلك من خلال إشباع احتياجات الطفل العاطفية بطرائق وأساليب مناسبة تعزز صحته النفسية، وتشجّعه على أن يكون أكثر استقلالية. وتشرح كيف أن تقبُّل وتفهُّم الوالدين للطفل بكل حالاته العاطفية والانفعالية يساعدانه على اللجوء إليهما عند مواجهة أي مشكلة. من ناحية أخرى، تؤكد الخطيب أهمية توعية الأطفال على مفاهيم كالتنمر والاستغلال وغيرها من الأمور، التي يمكن أن تعرّضهم لمواقف سيئة نتيجة تبعيّتهم أو تعلّقهم المَرَضيّ بأقرانهم، لتجنّبهم العواقب السلبية.



الـ Influencers: غط من نوع آخر
قد يتأثر الأطفال بالأشخاص «المؤثرين» على وسائل التواصل الاجتماعي بطرائق عدة. فعندما ترى فتاة مراهقة صورة معدّلة لإحدى المؤثرات تُظهر جسمها «مثالياً»، قد يؤدي ذلك إلى شعور الفتاة بأنها لا ترقى إلى مستوى معايير الجمال، فتشعر بالسوء تجاه صورة جسمها وتبدأ في اتباع نظام غذائي أو ممارسة تمارين رياضية بشكل مفرط. وعندما يشاهد شاب مقطع فيديو لأحد المؤثرين أثناء شرائه سيارة جديدة باهظة الثمن، قد يشعر أنه يحتاج إلى هذه الأشياء الثمينة ليكون سعيدًا، رغم أنه لا يستطيع تحمّل تكلفتها. كذلك قد يشعر الأطفال والمراهقون بالضغط للتوافق مع الاتجاهات والسلوكيات التي يروّج لها المؤثرون، بعد نشرهم مثلاً لمقاطع فيديو وهم يشربون الكحول مع تعليق «خلّيك cool». الأمر الذي قد يجعل الأطفال يشعرون بحاجة إلى الانخراط في سلوكيات سلبية ليكونوا «رائعين».


الاستسلام للأقران
تشير دراسات عدة إلى كثير من الأسباب التي تجعل من التوجه نحو الأقران بابًا للنشاط الإجرامي. فالأطفال في هذه الحالة يكونون أكثر عرضة للانخراط في سلوك إجرامي أو منحرف، خصوصًا إذا كان أصدقاؤهم يمارسون هذا النوع من السلوك، فيصبح من السهل التأثر بمواقفهم ومعتقداتهم، ويواجهون صعوبة في مقاومة الضغوط (Peer pressure) التي يمارسونها عليهم للاستسلام إلى مطالبهم والامتثال في نهاية الأمر.