«إغلاق معتقل غوانتانامو»، كان أحد أبرز الوعود الانتخابية للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما قبل وصوله إلى البيت الأبيض عام 2009، ولكنه لم يفعل. تكرر الوعد عام 2021 مع الرئيس الحالي جو بايدن. لكنه، أيضاً، لم يغلق المعتقل، وتستمرّ السلطات الأميركية في نزع صفة الإنسانية عن أشخاص مشتبه فيهم بالضلوع بالإرهاب، من دون أن يحاكموا أو يمنحوا أبسط الحقوق القانونية. عجز رئيس الولايات المتحدة الأميركية (القائد الأعلى Commander-in-chief) عن إغلاق معتقل عسكري يدل إلى أنه يكذب، أو أن إنشاء وتشغيل المعتقل يستند إلى صلاحيات تتفوق على صلاحيات الرئيس. فهل اعتماد ممارسات تعذيب ونزع صفة الإنسانية عن أشخاص معتقلين في غوانتانامو بات يشكل ركنًا من أركان الدولة الأميركية بعد هجمات 11 أيلول 2001؟. لا يزال في معتقل غوانتانامو، حتى اليوم، 30 شخصاً. ويستمرّ الجيش الأميركي باستخدام شتّى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بشكل يومي بحق هؤلاء، بينما تتغنى بعض الوكالات الحكومية الأميركية في العديد من الدول، بما فيها لبنان، بنشر ثقافة «حقوق الإنسان» والعدالة وتموّل برامج «إصلاح» و«منع الإفلات من العقاب»


قال الرئيس الأميركي جو بايدن بعد انسحاب القوات الأميركية بشكل مستعجل وفوضوي من أفغانستان في تموز 2021 إنه أنهى «أطول حروب الولايات المتحدة». لكن ذلك لم يكن صحيحاً. إذ إن تلك الحرب لا تزال مستمرة في معتقل غوانتانامو حيث يتابع الجيش الأميركي اعتداءاته بحق أشخاص لا يعدّهم بشراً بحجة «الحرب على الإرهاب».
ضم معتقل غوانتانامو سابقاً نحو 800 محتجز، وتقلّص العدد حالياً إلى 30، جميعهم مسلمون لم يُتّهم معظمهم بارتكاب أي جريمة. وقد أنكرت حكومة الولايات المتحدة، التي تتباهى بـ«الديمقراطية الليبرالية»، إنسانية المعتقلين بحجة الحفاظ على مصالح الأمن القومي الأميركي، وذلك خلافاً للقانون الدولي ولمعاهدات جنيف تحديداً، وخلافاً للقانون الأميركي المطبّق على جميع الأشخاص الموجودين في الولايات المتحدة.
وكانت محكمة الاستئناف الفيدرالية الأميركية لدائرة مقاطعة كولومبيا قد أصدرت حكمًا للمرة الأولى، في أيلول 2020، يقضي بأنه لا يحق للمعتقلين في غوانتانامو بالإجراءات القانونية المتّبعة، متبنّية بذلك موقف الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بشأن حرمان هؤلاء من أبسط حقوقهم القانونية. وقررت المحكمة الإبقاء على اعتقال المواطن اليمني عبد السلام الحيلة إلى أجل غير محدد. علماً أن الأخير أكّد أن الأدلة ضده استندت إلى إشاعات مجهولة المصدر، وأنه لم ينضم أو يدعم تنظيم «القاعدة» أو أي جماعة إرهابية أخرى. كما وجدت محكمة البداية في وقت سابق أن الحيلة «شارك في الجهود المدعومة من الولايات المتحدة ضد الجيش السوفياتي في أفغانستان في الثمانينيات».
لكن قضاة محكمة الاستئناف انقسموا حول ما إذا كان يحق للحيلة الحصول على إجراءات الحماية القانونية نفسها التي يتمتع بها أي شخص في الولايات المتحدة. فبموجب تلك الإجراءات كان يمكن لفريق الدفاع عن الحيلة دحض المزاعم الموجهة ضده. لكن القاضي ناومي راو حسم الأمر: «لا يجوز للأجنبي الذي لا يملك ملكية أو وجودًا في الأراضي السيادية للولايات المتحدة أن يتذرع بشرط الإجراءات القانونية الواجبة»، وهو الموقف الذي اتخذه أيضًا القاضي ريموند راندولف.
وكانت المحكمة العليا الأميركية قررت عام 2008 أنه يمكن للمعتقلين في غوانتانامو الطعن فقط في شرعية احتجازهم أمام المحكمة الفيدرالية، لكن من دون أن تشير إلى حقوقهم في تسلسل الإجراءات القضائية.
ولا بد من التذكير هنا إلى أن الكونغرس كان قد وضع بعض التدابير الشكلية لحماية المعتقلين في المحكمة العسكرية الخاصة بهجمات 11 أيلول 2001. فعلى سبيل المثال، يحظر القانون استخدام الاعترافات التي تدين الذات والتي يحصل عليها من خلال التعذيب والمعاملة القاسية واللا إنسانية. لكن تكمن المفارقة العجيبة في أن القانون نفسه يسمح للمدّعين العامين باستخدام أقوال معتقل آخر ضد المدّعى عليه حتى لو حصل عليها المحققون بواسطة الإكراه. وقد اعترض بعض محامو الدفاع على ذلك باعتباره انتهاكًا للحق الدستوري في الإجراءات القانونية الواجبة. وجادل محامو الدفاع لسنوات بأن على القضاة العسكريين أيضًا تطبيق تدابير حماية دستورية أخرى، مثل الوصول إلى المحامين قبل توجيه الاتهام إلى السجناء. ولكن القضاة ليسوا ملزمين احترام الحقوق القانونية البديهية للمعتقلين في غوانتانامو بموجب قرار محكمة الاستئناف الفيدرالية.

منع الإنفاق على نقل المعتقلين
الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما كان قد وعد بإغلاق معتقل غوانتانامو، لكن ذلك لم يحدث. أما الرئيس السابق دونالد ترامب فقرر إبقاء المعتقل مفتوحاً، لكنه دعا إلى وقف فوري لعمليات نقل المعتقلين إليه. وفي الأسابيع الأولى من توليه منصبه، كان الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن قد كشف عن نيّته إغلاق معسكر الاعتقال، لكن دون جدوى. وبعد توقيع بايدن في كانون الأول 2022 قانون موازنة الدفاع الجديد، بات إغلاق المعتقل شبه مستحيل إذ يتضمّن القانون أحكامًا قد تحظر استخدام الأموال لنقل المعتقلين إلى عهدة دول أجنبية. وبالتالي، حتى لو صدر قرار إغلاق المعتقل لا يمكن نقل من تبقى داخله إلى دولهم أو إلى دول ثالثة.
وقال كلايف ستافورد سميث، محامي حقوق الإنسان الدولي الذي يمثل أربعة من معتقلي غوانتانامو بعد تأمين إطلاق سراح 83 سجيناً على مر سنوات، إنه جرت تبرئة 20 من أصل 35 شخصاً متبقين في المعتقل ويتوقع «إخراج المزيد من الأشخاص قريباً». وأضاف: «ننفق حالياً أكثر من 14 مليون دولار سنوياً لكل معتقل، وهي أموال يمكن إنفاقها بشكل أفضل بكثير على الرعاية الصحية للفقراء».

تقرير الأمم المتحدة: فشل حقوق الإنسان
وقد زارت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بمكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان، فيونوالا ني أولاين، معتقل غوانتانامو أخيراً، والتقت عدداً من المعتقلين ونشرت تحقيقاً شاملاً في حزيران المنصرم حول انتهاكات حقوق الإنسان.
وأشار التقرير بوضوح إلى أنه في أعقاب هجمات 11 أيلول 2001، رُحّل مئات الآلاف من الرجال المسلمين بشكل غير قانوني عبر الحدود، واختفى بعضهم قسراً، واحتجز البعض الآخر في معتقلات سرّية، و/أو تعرضوا لانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. وأشارت ني أولاين إلى أن السلطات الأميركية أخضعت المعتقلين للتعذيب من خلال الإغراق (waterboarding) والحرمان من الطعام والماء، والحرمان من النوم، والضوضاء المستمرة أثناء الاحتجاز. وقيل للسجناء إن أفراد أسرهم سيتعرضون للأذى، كما تعرض المعتقلون لعمليات إعدام وهمية وللعنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب وغيره من الأعمال الشنيعة. وأكد التقرير على «النتائج السابقة للإجراءات الخاصة للأمم المتحدة بشأن الاعتقال السرّي والتعذيب وسوء المعاملة في مواقع متعددة (بما في ذلك المواقع السوداء) وفي خليج غوانتانامو». وقد سمحت حكومة الولايات المتحدة بالتعذيب وقام موظفون أميركيون بحملة تعذيب ممنهجة.
وذكرت مقررة الأمم المتحدة أن «الخطاب الاستثنائي والتمييزي وحجج مكافحة الإرهاب كانت من بين دوافع ومبررات استمرار وجود معتقل غوانتانامو» لأكثر من ملياري مسلم في جميع أنحاء العالم.
ويشير التقرير إلى «إن التعسّف يسود البنية التحتية للاحتجاز في غوانتانامو بأكملها، ما يجعل المعتقلين عرضة لانتهاكات حقوق الإنسان والاحتجاز التعسّفي». وأضاف أن الحياة خارج غوانتانامو، بالنسبة لبعض المعتقلين، هي مجرد غوانتانامو آخر. ووجدت ني أولاين أن أولئك الذين لا يمكن إعادتهم إلى بلدانهم يجري إرسالهم بدلاً من ذلك إلى دول ثالثة مثل كازاخستان، حيث يتعرضون لمزيد من الاعتقال التعسّفي من قبل السلطات المحلية.
يرسل معتقلو غوانتانامو الذين لا يمكن إعادتهم إلى وطنهم إلى دول ثالثة حيث يتعرضون لمزيد من الاعتقال التعسّفي


وسلّطت المقررة الخاصة الأممية الضوء على كازاخستان والإمارات العربية المتحدة باعتبارهما دولتين تثيران قلقاً. وجاء في تقريرها: «في كازاخستان، يظل المعتقلون السابقون قيد الإقامة الجبرية فعليًا وغير قادرين على عيش حياة طبيعية وكريمة بسبب الإجراءات الأمنية الثانوية التي اتّخذت بحقهم». أما في الإمارات العربية المتحدة، فـ«العديد من المعتقلين السابقين تعرضوا للاعتقال التعسّفي والتعذيب، ولا يزال أحدهم محتجزًا ومعزولًا عن العالم الخارجي».
وخلص تحقيق الأمم المتحدة إلى أن الأشخاص المفرج عنهم من غوانتانامو في صفقات إعادة التوطين لم يحصلوا على الوضع القانوني المناسب من قبل البلدان المضيفة لهم في 30% من الحالات الموّثقة. وعدم حصولهم على اللجوء يهدد «بمنعهم وعائلاتهم من الحصول على الرعاية الصحية، والتعليم، وكذلك السفر إلى الخارج، وكلها استحقاقات أساسية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان».
واختتم التقرير بأن الولايات المتحدة فشلت في تعزيز وحماية حقوق الإنسان الأساسية، ودعا الحكومة الأميركية إلى تطوير نهج لتقليل عدد المحتجزين بشكل مسؤول وتحديد الظروف لإغلاق مرفق السجن مرة واحدة وإلى الأبد.



كان عمره 18
«ما زالوا يبقون الرجال في السجون لمدة 21 عاماً من دون حقوق، ودون تهم، ومن دون محاكمة، وحتى من دون إنسانية» قال الأسير السابق منصور أحمد سعد الضيفي. الشاب اليمني الذي كان في الثامنة عشرة من عمره عندما اعتقلته المخابرات الأميركية في أفغانستان في 9 شباط 2002 واتّهمته بأنه أحد كبار المجنِّدين لتنظيم القاعدة، نُقل إلى معتقل غوانتانامو حيث احتجز لنحو 14 سنة، تعرّض خلالها للتعذيب والإذلال وسوء المعاملة. وبعد إخلاء سبيله في 11 تموز 2016، قال الضيفي إن إرث مركز الاحتجاز يزداد سوءًا مع مرور كل عام، مضيفًا إن المعتقل «يرمز إلى القمع والظلم والخروج على القانون وإساءة استخدام السلطة والاعتقال إلى أجل غير مسمى».


تحطيم حياة الناس
«يشكل معتقل غوانتانامو رمزاً للظلم العنصري والديني، والانتهاكات، والاستهتار بسيادة القانون. إن تبنّي حكومتنا للتعذيب المنهجي أدى إلى تحطيم حياة الناس وتمزيق سمعة هذا البلد في العالم، وعرّض الأمن القومي للخطر. وحتى يومنا هذا، رفضت الحكومة الأميركية الكشف عن التفاصيل الكاملة لبرنامج التعذيب أو توفير العدالة والإنصاف لجميع الضحايا».
اتحاد الحريات المدنية الأميركي (ACLU)، 11 كانون الثاني 2022.


أساليب الاستجواب المعززة
في غرفة شديدة البرودة في معتقل غوانتانامو، مات أحد المحتجزين، نصف عارٍ، بعد 48 ساعة من حرمانه من النوم. سمح برنامج الاعتقال والاستجواب التابع لوكالة المخابرات المركزية باستخدام ما يسمى «أساليب الاستجواب المعزز» مع المعتقلين الذين ألقي القبض عليهم بعد هجمات 11 أيلول. بتفويض من المسؤولين في البيت الأبيض في إدارة بوش ووزارة العدل، تعرّض 39 معتقلاً على الأقل لهذه الأساليب التي تشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي واتفاقية مناهضة التعذيب، فتعرض عدد من المعتقلين للإغراق بالمياه، وكثيراً ما استخدمت وكالة المخابرات المركزية مجموعة من التكتيكات كالحرمان من النوم للمحتجزين في أوضاع مجهدة، أو الحرمان الحسّي للمعتقلين المقيّدين بالأغلال في الحبس الانفرادي.
(راجع «القوس»، 1 تشرين الأول 2022، «أساليب الاستجواب المعزز: تعذيب ممنهج في دولة حقوق الإنسان»)