تروّج قوى السلطة اليوم أنها حققت إنجازاً منذ مطلع نيسان الماضي اسمه «الاستقرار النقدي». حياد السلطة تجاه الأزمة، لم يُنتج فقط تبديد القسم الأكبر من موارد لبنان بالعملة الأجنبية، بل أنتج مزيداً من الفقر المتعدّد الأبعاد وهجرة واسعة للشباب وانكماش الاقتصاد من 55 مليار دولار في عام 2018 إلى 16 مليار دولار. لبنان، سبق أن اختبر الوجه اللطيف من هذه المعاناة في مطلع التسعينيات يوم مُنحت السياسة النقدية الهيمنة على السياسات المالية والاقتصادية في إطار «الاستقرار النقدي». أما اليوم، ففي ظل حجم الأزمة وربطها بالاستقرار النقدي حصراً، تصبح أعراض المعاناة مزمنة والانحرافات أكثر تجذّراً. الإنجاز الوحيد الذي يمكن لقوى السلطة أن تدّعيه، هو «الجريمة».قبل نهاية ولاية رياض سلامة، كانت الدولرة النقدية اجتاحت لبنان. أما الليرات الموجودة في السوق، فموّلت المضاربات على منصّة «صيرفة» بشكل أساسي، وتحلّ محلّ «فراطة» الدولارات التي لم تعد متوافرة بالقدر الملائم للتبادلات اليومية في السوق. سلامة ضخّ على مدى السنوات الأربع الماضية نحو 80 تريليون ليرة (ما يوازي 900 مليون دولار بسعر صرف اليوم). كان الحاكم السابق يعمل على شراء الوقت بمعزل عن الكلفة، وهو خيار اعتمده لسنوات طويلة. ما أفقد موجودات مصرف لبنان السائلة بالعملة الأجنبية نحو 25.5 مليار دولار. ومن أصل 34.15 مليار دولار في نهاية أيلول 2018 ، بقي مع المصرف نحو 8.7 مليارات دولار في 15 أيلول 2023. أما الالتزامات المترتبة على ما تبقى من هذه السيولة فهي ليست نهائية وحاسمة، حتى بعد الشروحات التي قدّمها الحاكم بالإنابة وسيم منصوري في البيانات المالية الأخيرة. هذه الخسارة استخدمت ضمن أكثر من هدف من بينها تثبيت أسعار صرف استيراد السلع الأساسية أو ما سمّي بـ«الدعم» بكلفة إجمالية تجاوزت 14 مليار دولار، ومنها ما استُخدم لأغراض أخرى مثل تهريب الودائع لكبار النافذين، أو إقراض المصارف لتسديد خطوط ائتمانية في الخارج... واعتباراً من 26 نيسان 2023، أقرّ المجلس المركزي لمصرف لبنان إنشاء حساب جديد في الميزانية يسمّى «صندوق تثبيت القطع» الذي راكم خسائر فروقات سعر الصرف الناتجة من تدخّله في السوق لغاية 15 أيلول بقيمة 109 تريليونات ليرة، أو ما يوازي 1.22 مليار دولار «فريش»، أي إن الكلفة المباشرة لتثبيت سعر الصرف بلغت 245 مليون دولار شهرياً.
عملياً، النتيجة الواضحة أمامنا، هي كلفة تثبيت سعر الدولار على 89 ألف ليرة. آلية التثبيت التي اعتمدها سلامة، قامت على مبدأ أن يضخّ مصرف لبنان الدولارات عبر منصّة "صيرفة" لتسديد رواتب القطاع العام، إضافة إلى حاجات للدولة، وفي المقابل يجمع الدولارات من السوق مقابل ليرات يضخّها عبر عقود مع مصارف وصرافين وشركات مالية أخرى. أهمية هذه الآلية أنها كانت تنطوي على مزاريب واسعة للدولارات بمقدار الخسائر التي يتكبّدها المركزي بسبب فروقات سعر الصرف بين «صيرفة» والسوق الحرّة.
بعد استلام منصوري، أجريت تعديلات على الآلية تهدف إلى جعلها أكثر فعالية وأقلّ هدراً للدولارات. لكن في المرحلتين، كمن سر الاستقرار، في استخدام السياسة المالية في إطار أولويات السياسة النقدية. إذ كان هناك اتفاق بين وزارة المال ومصرف لبنان على تعديل قيم استيفاء الضرائب، ولا سيما الدولار الجمركي وضريبة القيمة المضافة، بما يؤمّن سحب كمية كبيرة من الليرات من السوق. وفي المقابل يجب ألا تضخّ الوزارة كميات كبيرة من الليرة لتسديد فواتير المتعهدين والأكلاف التشغيلية الأخرى والرواتب والأجور. في الشهر الماضي، أمّنت وزارة المال جباية من ضرائب ورسوم بقيمة 27 تريليون ليرة ودفعت رواتب وأجور بقيمة 7 تريليونات ليرة. عملياً، أتاح ذلك كبح المضاربات بشكل نسبي، فيما تولى مصرف لبنان عبر وكلائه في السوق، توزيع كمية الدولارات الوافدة نقداً تبعاً للحاجات السوقية ولحاجات الخزينة.
توازن الكتل النقدية هو أحد العوامل المساعدة في ما يسمّى «الاستقرار النقدي». رغم ذلك، يعتقد كثيرون أن الاستقرار سببه عدم وجود قرار بـ«التخريب» حتى الآن، إذ إن التوازن التقني للكتل النقدية بين الليرة والدولار في السوق، ليست عاملاً حاسماً في ظروف ملتهبة كالتي نشهدها دولياً وإقليمياً ومحلياً. ليس من الصعب أبداً التلاعب بسعر الصرف حتى مع كل إجراءات مصرف لبنان، إذ سبق أن شهدنا تلاعباً بسعر الصرف عبر طلبات بسيطة نسبياً مثل بضعة آلاف من الدولارات فقط.
وفق أي سياسة تعمل هذه الآليات؟ ثمة كلام يردّده منصوري في كل مرّة: الاستقرار النقدي هو الأولوية. ومنصوري سبق أن سأل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في أكثر مناسبة عن أولوية الحكومة، فأجابه بأن الاستقرار النقدي هو الأساس. وهذا الهدف، جرى الترويج له قبل انتهاء ولاية سلامة، حيث روّج بأن خروج سلامة سيُشعل سعر الصرف. وبمعزل عن أهداف كل هذا الكلام، فإن ثمة حقيقة واضحة للعيان: السلطة النقدية تفرض على السلطة المالية (الحكومة ووزارة المال) زيادة الضرائب وتقليص الإنفاق من أجل تجفيف السوق من الليرات والحدّ من الطلب على الدولار.
بعض الخبراء، يرون أن تدخّل مصرف لبنان في السوق ليس له أهمية في إطار تثبيت سعر الصرف بمقدار ما له أهمية في إبطاء التدهور، أو شراء المزيد من الوقت في انتظار أمر ما (بالمناسبة هو الأمر نفسه الذي كان يقوم به رياض سلامة رغم اختلاف آليات العمل). لكن من أبرز تداعيات هذا التدخّل أنه يخلق أوراماً اقتصادية، كما كان يحصل في السنوات التي سبقت الأزمة. لكن الورم الذي يظهر الآن هو أخبث وأكبر بكثير لأنه يأتي في ظروف أسوأ. إذ لم تتمكن قوى السلطة من معالجة أي من الاختلالات التي أنتجتها الأزمة، فإذا كان "الكابيتال كونترول" هو العقدة الأسهل، ولم يُقرّ القانون منذ أربع سنوات، فكيف سيتم التعامل مع العقدة الأصعب التي تكمن في إعادة هيكلة القطاع المصرفي. حيث كانت المصارف ولا تزال قوّة كبيرة لديها نفوذها السياسي، كما لديها مصالح مالية تجعلها قادرة على تعطيل أي إصلاح.
لكن المشكلة لا تُحصر هنا فقط. فالهيمنة النقدية، وإن كانت تهدف إلى شراء الوقت فقط، إلا أن تداعياتها سلبية بشكل هائل على الاقتصاد والمجتمع. فهناك ثلاثة أركان لا يمكن اعتمادها في آن معاً: الثبات النقدي، ثبات القوّة الشرائية، ثبات الاستهلاك. الثبات النقدي يتطلّب أن تنخفض المداخيل أو ينخفض الاستهلاك. انخفاض المداخيل يعني المزيد من الانهيار في القوّة الشرائية، وانخفاض الاستهلاك يعني المزيد من الضرائب ورفع أسعار السلع والخدمات. لذا، علينا أن نختار نوع المقابل للاستقرار النقدي: هل نرفع الضرائب ونكبح الاستهلاك، أم نقلص المداخيل، أم نقوم بالأمرين معاً؟ الاستقرار النقدي يعني أن كلفة إعادة الاستثمار ستصبح كبيرة على الاقتصاد، وأن فرص النموّ محدودة بقطاعات محدّدة على حساب تراجع أكبر في القطاعات الأكثر حيوية. وارتفاع نسبة هجرة الشباب والعائلات بحثاً عن عمل، كما ارتفاع كلفة الوصول إلى الخدمات الصحية والتربوية. وسوف تظهر نتائج هذه السياسة في السنوات المقبلة، على شكل مجتمع هرم بمستوى تعليمي متدنٍ، وزيادة في معدلات الوفيات بسبب كلفة الطبابة والاستشفاء وتدني جودة الخدمة الصحية. لا يُحسب من ضمن كل ذلك التغير الديموغرافي الناتج من عشوائية التعامل مع النزوح السوري، وهي تغيّرات اقتصادية واجتماعية بنيوية.
حالياً، قوى السلطة مشغولة بمراقبة تطوّرات الخارج، وتسلّي الجماهير بـ«مباريات» محلّية بين قوى تتحاور وتتصارع تحت عناوين مختلفة تخفي نقاشات بشأن مقترحات لتعديل بنية النظام لاكتساب سلطة أو لإرضاء جماعة أو لحماية أخرى. هل المطلوب استقرار نقدي فوق الجثث؟