لم تروا شيئاً من تداعيات «الانهيار» بعد. «الانهيار» ليس حالة نتجت من إفلاس دولة المصارف ومصارفها. «الانهيار» لم يكن قدَراً، كان هدفاً. وحتى اليوم، ليس هناك خطّة جدّية للتصدّي له. شهد وسط بيروت المهجور بسبب احتلال شركة «سوليدير» له، والتي تشكّل أساساً رمزاً للانهيار، تصادماً بين مسيرة وتظاهرة مضادة، لينتهي المشهد باعتداء التظاهرة على المسيرة ومحاصرتها ومنعها من السير، فانحسرت اعتصاماً. المسيرة سمّيت «مسيرة الحرّيات» ورُوّج لها على أنّها لمواجهة قمع الحرّيات المتزايد في البلد، بعدما استدعت السلطات القضائية والأمنية بضعة أشخاص يعملون في مجال «الثقافة والإعلام والكوميديا» إلى الاستجواب بسبب قضايا القدح والذم ومخالفة قوانين أخرى موجودة على الورق، لكنها غير قابلة للتطبيق. الداعون إلى المسيرة من لون واحد، لكنّهم يدّعون تعدّدية الألوان. في المقابل، هناك من أعلن كرهه للألوان بالمجمل. طبعاً كلّ الألوان حقيقيّة وطبيعيّة ولا يمكن نكرانها لا علميّاً ولا دينيّاً، وإن كان التضادّ بين العلم والدّين ليس قطعيّاً. الدّين هو علم اجتماع في النهاية.
الانهيار يولّد العنف، والعنف يأخذ أشكاله المختلفة عاكساً توازن القوى لحظة الانهيار. لكن أوّل الضحايا هم الأضعف مكاناً وزماناً. عشرون شخصاً يمثّلون مئة جمعيّة، تجمهروا أمام تمثال رياض الصلح الذي يجب أن يُزال كما سائر تماثيل أخرى لا تمثّل الشعب اللبناني. في خطابٍ لإحدى الناشطات، التي خاضت الانتخابات النيابية الأخيرة وحصلت على 66 صوتاً فقط لا غير، وهي لا تنفع للفوز في انتخابات أيّ لجنة بناية في دائرة بيروت الثانية، قالت… لا داعي لإكمال الجملة، لأنها لا تمثّل. والادّعاء بتمثيل الشارع، وأنّكم الأدرى والأرقى والأعرف بمصلحة الشعب ادّعاء ساقط. لا علاقة لكم بالشعب.
إدانة العنف ضد التُّفَّه واجب، رغم أنه لا يقدّم ولا يؤخّر إن لم تكن تملك إمكانيّة الدفاع عنهم. الإدانة ليست مقاومة. لكنّ تثقيف «الجَهَلَة» مهمّة ضرورية. وإن لم تكن تملك آليّات مواجهة الخطاب الاستعماري السائد. تثقيف «الجَهَلَة» أيضاً ليس ثورةً، بل مهمّة على طريق الثورة. لكنها خطوة لا بدّ منها. وهي مهمة، لن تموّلها صناديق الاستعمار الغربي. أما البوصلة لمن يريد الثورة فواضحة، إن رضيَت عليك صناديق الاستعمار الغربي، فأنت لست بثائر بل عميل لمصلحة الاستعمار، أو تاجر قضايا، يعني أنك «مصلحجي» تنقل الصندوق من كتف إلى كتف حسب المردود المادي. (جريدة «الأخبار» تحرّض مجدّداً).
كثرٌ من المتنعّمين برضى منظمات التمويل الغربي، والتي باتت تعرف بالإن جي أوز، كمسبّة عند عامة الشعب المنتفع وغير المنتفع منها، يتهمون «الأخبار» بأنها تحرّض عليهم وتخوّنهم. هناك ملفّ استقصائي تفصيلي اسمه «مقاتلو الحرب الناعمة» تفنّد «الأخبار» فيه دورهم في العمالة ومدى خيانتهم. ليسوا كلّهم سواسية في العمالة والخيانة، بعضهم خبيث، وبعضهم محتاج، وبعضهم أبله. يمكن للشخص أن يحاجج أن العنف غير مبرّر ضد أي شخص، لكن ما هي الفتوى في حالة الأفراد الذين يغتنون من قضايا لا يأبهون لها. هناك جمعيات كسبت الملايين بادّعائها مناصرة السلامة المروريّة ودعمها، «كفى» و«أبعاد» تتنافسان لسنوات بلا حرج وبلا نتائج حقوقيّة وإن كانت مربحة مادّياً، وفي ما يخصّ إخواننا ورفاقنا ومواطنينا المثليّين، فإن فضائح الفساد في الجمعيات المفترض أن تكون داعمة لهم لا تحصى. لا تزايدنّ علينا يا تجّار القضايا.
اللافت في المشهد هو أنه اجتمعت معظم مكوّنات الشعب اللبناني لأول مرّة ضد ما سمّته «الشذوذ». المشهد على الأرض وعلى وسائل التواصل مليء بالكراهية، أو هاشتاغ # نظام_الكراهيّة كمّا قرّر زميلنا السابق الخالد، والكاره والحاقد، تسميته على منصته المموّلة من الغرب. لكن هناك من يكسب مالاً من غزوة جنود الهوموفوبيا ضد تحرّكاتهم. في المقابل، من يحرص على الصعود بالشعب بكلّ مكوّناته وأقلّياته ومهمّشيه جماعةً. ليس هناك تمويل غربي متاح لذلك. التمويل الغربي هو من خلق حالة ثقافية منسلخة عمّن يسكن أبعد من مئتَي متر عن سور الجامعة الأميركية. خلق حالة اجتماعية في دزّينة مقاهٍ ومطاعم في بدارو. خلق حالة مهيّئة لانهيارٍ فور أن تتحوّل مستحقات منعّمينا ومنعمّاتنا إلى نازيّي أوكرانيا، عند تجدّد طلب التمويل.
المشكلة مع الإجماع اللبناني وراء أبي بكر وجنود الرب وفيحائه، بما أن ربّ العالمين خلق كلّ شيء، هي أن الغضب الأكبر ليس موجّهاً إلى المكان السليم. إن هاجمنا صناديق الاستعمار لن يَعنينا «خطر» إخواننا ورفاقنا ومواطنينا، مهما اختلفنا بالرأي، لأنهم جزء من الحلّ، بل سنتّحد في وجه الانهيار… والاستعمار، الوجهة الوحيدة هي الاستعمار وخطره. حان لنا أن نتخلّص منه.