أُقفلت صناديق الاقتراع لانتخاب عضوين في «المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى» من دائرة جبل لبنان، لينتقل مُتابعو الملف إلى «تقريش» الأصوات في المعركة الأهم: انتخاب مفتٍ لجبل لبنان خلفاً للمفتي محمّد علي الجوزو.منذ سنوات، يتم تناقل رغبة الجوزو بأن يكون نجله القاضي الشرعي الشيخ محمّد هاني، خليفته في المنصب. مع ذلك لا يُريد الأب الاستعجال و«حرق الطبخة»، خصوصاً أنّ القانون الساري المفعول عند انتخابه في أواخر الستينيات من القرن الماضي يُبقيه مفتياً مدى الحياة عوضاً عن إحالته على التقاعد في سن 72 كباقي مفتي المناطق.
لذلك، رفض الجوزو العديد من العروض التي قُدّمت له بتكليف نجله رسمياً بمهام الإفتاء، مُكرّراً: «عندما يأخذ الله أمانته، يتدبّر محمد هاني أمره». على الأغلب «وشوش» المفتي الأب هذه العبارة لأحد المسؤولين في السفارة المصريّة منذ أكثر من 10 سنوات، إلا أنّ عارفيه يُدركون أنّه كان رفضاً منمّقاً لعرضٍ غير مقبول مُرّر عبر المصريين والرئيس سعد الحريري في حينه، ولكنْ ما قصده هو شيءٌ آخر، إذ يرفض الأب التكليف لكوْن صلاحيته تنتهي بعد 5 سنوات، فيما هو قادر على «تثبيته» بالانتخاب.
هكذا اشتغل «أخطبوط» العلاقات العامّة والخدمات على مدى السنوات السابقة، حتّى بات الجوزو الابن قادراً على الإمساك بملفّات إقليم الخروب؛ بالحزم حيناً وبتدوير الزوايا في أغلب الأحيان. التعب الذي أصاب الجوزو الأب جعل من «الوريث» مرشّحاً محنّكاً غير بعيد عن القضايا الطارئة، تعرفه بلدات المنطقة وهيئتها النّاخبة.
شيئاً فشيئاً، ثبّت القاضي الشرعي في محكمة بيروت قدميْه وتحوّل إلى مرشحٍ طبيعي، قوّته «منه وفيه»، عوضاً عن أن تكون سطوته مستمدّة من كوْنه «ابن المفتي» فقط. ومع ذلك، بقيت العقبة في من يُنافسه على المنصب بالانتخاب: القاضي الشرعي الشيخ رئيف عبدالله الذي يحظى بحيثية في الهيئة الناخبة باعتباره «الآدمي» كما يصفه مشايخ المنطقة، إضافة إلى علاقة متينة تربطه بمفتي الجمهوريّة الشيخ عبد اللطيف دريان وأُخرى مع «تيّار المستقبل» وقرابة عائليّة مع النائب بلال عبدالله ربطته بخيط مع المختارة.
ولكن أهم ما «يسند» ظهر عبدالله في مواجهة «ابن المفتي» هو أنّه ابن بلدة شحيم التي تمتلك أكثر من نصف أعضاء الهيئة الناخبة على عكس برجا (أقل من 20 من أصل 122 ناخباً) التي ينحدر منها الجوزو، تُضاف إليها الحساسيّات المناطقيّة بين البلدتين، خصوصاً بعدما تم استبعاد برجا لدورتين متتاليتين في الانتخابات النيابيّة.
لذلك، كان لا بد للجوزو الابن أن يجد ممراً آمناً إلى شحيم يُتيح له الأكل من صحن مُنافسه؛ فكانت انتخابات «المجلس الشرعي» فرصة مؤاتية لنسج تحالفاتٍ جانبيّة تؤمّن له المزيد من الأصوات. ولأنّ الرّجل كان يُريد ضرب أكثر من عصفورٍ واحد، قضى بطريقه على «العُرف» الذي جعل من عبدالله الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات، بل ضعضع حتّى إمكانيّة وصوله. وسلّف قاضي التحقيق في بعلبك حمزة شرف الدين الذي يحظى بحيثيّة وازنة بين القضاة المدنيين والهيئة النّاخبة في شحيم، كما سلّف «الجماعة الإسلاميّة» أكثر من 20 صوتاً صبّت لصالح مرشّحها عاطف قشّوع الذي كاد أن يُطيح بعبدالله لولا تدخّل دريان مع «تيّار المستقبل» في الدقائق الأخيرة.
على ضوء هذه النتيجة، يُرجّح البعض أن يتمكّن الجوزو من الحفاظ على هذه التحالفات التي تُتيح له ضمان وضع أكثر من 50 صوتاً «في جيبه» مع احتساب أصوات محسوبة عليه وأصوات «المستقبل» و«الجماعة» وإمكانية أن يصل إلى تفاهمٍ مع شرف الدين ليقوم الأخير بتجيير أصوات بعض المقرّبين منه من القضاة المدنيين.
وعد عبدالله أحد القياديين في «المستقبل»بعدم الترشّح للإفتاء


في الخلاصة، يُمكن القول إنّ عبدالله ربح مقعده في «المجلس الشرعي»، لكنّه خسر في المقابل إفتاء جبل لبنان، خصوصاً أن البعض يلفت إلى أنّ «العصبيّة المناطقيّة» بين برجا وشحيم قد لا تقضي على حلم الإفتاء لدى آل الجوزو، متّكلين على عتبٍ عند بعض أبناء شحيم على ترشّح عبدالله إلى «الشرعي» لأربع مرات متتالية ودعمٍ عربي خارجي يحظى به الجوزو الابن سيُترجم باستنفار «الحريريين» في إقليم الخروب لصالحه.
وإذا كان البعض يسوّق أن الأمور باتت أسهل من الأوّل بعدما نجح الجوزو في الحصول على وعدٍ من عبدالله بعدم الترشّح إلى الإفتاء خلال لقاء جمعهما قبل يومٍ من موعد انتخابات «الشرعي» وعلى مسمعٍ من بعض «الشهود»، فإنّ آخرين يلفتون إلى أن اللقاء الذي جمعهما لم يتوصّل إلى أي نتيجة، ولذلك كان خيار «الجية» دعم قشوع على حساب عبدالله.
فيما يعتقد آخرون أن الرواية فيها شيء من الصحة، لافتين إلى أنّ «وعداً بالانسحاب قطعه عبدالله لأحد المسؤولين في المستقبل في اتصالٍ هاتفي جرى بينهما، جعل من قيادييه يجيّرون أصواتهم لصالحه في اللحظات الأخيرة»، مؤكدين أنّ هذا الوعد نُقل إلى الجوزو، خصوصاً أنّه يُفهم من «الحريريين» تفضيلهم للجوزو وردّ الاعتبار إلى برجا بعد إقصائها عن المجلس النيابي و«المجلس الشرعي». أما المقرّبون من عبدالله فينفون هذه الواقعة.
ومهما يكن من أمر، فإن محاكاة الإفتاء في انتخابات «الشرعي» يوم الأحد عزّزت موقف الجوزو وفق ما يشيع متابعون، وإن كانوا يلفتون إلى أنّ التحضيرات لانتخابات الإفتاء إثر استقالة يُقدّمها الجوزو الأب، لم تبدأ بعد، مشدّدين على أنّ «الدّعوة قد لا تُعمّم قبل انتهاء السنة الجارية».



مصر عاتبة على «المستقبل» وميقاتي
تؤكّد مصادر مُتابعة «صدمة» مسؤولي السفارة المصريّة إثر فرز الأصوات في انتخابات «المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى»، بعدما خاب أملهم في قدرة تيّار المستقبل على «الحل والربط».
وبحسب هؤلاء، كانت انتخابات «الشرعي» تعني كثيراً للقاهرة وتحديداً للأزهر، تماماً كانتخابات الإفتاء، للحفاظ على قوّة حضور «الاعتدال الإسلامي على حساب المتطرفين»، وهو ما بدا واضحاً بقرار التمديد لمفتي الجمهوريّة الشيخ عبد اللطيف دريان كـ«رمزٍ للاعتدال السني». ويضيفون أن المصريين رفضوا التدخّل في الانتخابات بعدما ركنوا إلى تطمينات تيار المستقبل حول قوّته التجييريّة، قبل أن يتبيّن أن قدرات التيار لا تفوق قدرات أي طرف آخر، فضلاً عن اضطراره في الساعات الأخيرة إلى «تركيب» تحالفٍ مع أمين دار الفتوى الشيخ أمين الكردي الذي تسوّق جهات عربيّة بأنّه أقرب إلى تنظيم «الإخوان المسلمين». ويسود الاستياء في السفارة من فوز بعض من تعتبرهم الجهات المصريّة أقرب إلى «الإخوان» والمتشددين، وامتلاكهم الكفّة المرجّحة في «المجلس الشرعي». والاستياء المصري نفسه ينسحب على رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بعدما صبّت أصوات المشايخ المحسوبين عليه لصالح من تعتبرهم السفارة «متشدّدين».