بعد مراجعة الصور والفيديوهات التي تظهر تدمير المباني والمنازل والأبراج السكنية في قطاع غزة، يتبيّن أن القصف «الإسرائيلي» جاء نتيجة خطة مدروسة ومقصودة وممنهجة لأسباب عدة، وهذا ما يدحض تبريرات العدو بأن الدافع وراء قصف المنشآت المدنية هو استهداف كوادر من المقاومة تشغل شقة أو طابقاً في مبنى ما، لا سيّما أنه بالإمكان استهداف الشقة بذاتها في الطابق المعيّن من دون إلحاق الأضرار ببقية أجزاء المبنى. والدليل قائم في اغتيال الظواهري على سبيل المثال، إذ اغتيل عبر صاروخين استهدفا شرفة منزله، من دون إلحاق الضرر بغرف أخرى في المنزل أو بأي من أفراد عائلته. مثال آخر، يظهر في الصورة التالية استهداف الطابق الأرضي من برج الجوهرة إبّان العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2021.برج الجوهرة: دُمّر الطابق الأرضي دون سواه ومن دون إلحاق الأذى بمدنيين (مصدر الصورة: موقع القدس العربي)

برج الجوهرة: دُمّر الطابق الأرضي دون سواه ومن دون إلحاق الأذى بمدنيين (مصدر الصورة: موقع القدس العربي)


كذلك استهداف الطابق الأخير في الصورة التالية (الجهة اليمنى) من دون المساس ببقية الطوابق.

صورة من حي الرمال في قطاع غزة (مصدر الصورة: جريدة الأخبار أ ف ب)

من جهة أخرى، يتبيّن من خلال التدقيق في صور الدمار في قطاع غزة أن إسقاط تلك الأبراج والمباني السكنية اعتمد على مبدأ «التفجير الإفراغي»، لأن الصاروخ، بغض النظر عن وزن الرأس المتفجّر وقوة التفجير، غير قادر على إسقاط كامل البناء بطريقة التكديس (كما هو واضح في الصور أدناه)، بل يمكن أن يؤدي إلى انهيار كبير ولكنه يبقى جزئياً، لأن هذا النوع من الأسلحة يعتمد على قوة الانفجار والعصف.
بينما الهدم بالتفجير الإفراغي يتحقق عبر تعطيل قانون الهندسة المدنية في الأجزاء الحاملة من البناء، وعبر تغيّر سريع في قيمة «قوة القص والعزم» (مصطلح هندسي يعني الاجهادات في الجسور والأعمدة) واتجاه الأحمال. بالتالي، تتحول وظيفة الأعمدة من أعصاب حاملة عامودياً إلى أعصاب حاملة للأثقال جانبية بسرعة كبيرة، ما يتسبب بتصدّعها وتزيد أحمال الجسور بسبب الضغط الجوّي المستجد، من جهة.
ومن جهة أخرى، يتعرض البناء إلى قوة شفط إلى الداخل ناتجة عن إفراغ الهواء في البناء، إذ إن القنبلة الفراغية تقوم بإفراغ الهدف من الهواء لأنها تمتص عند انفجارها الأكسجين الموجود في محيط الإنفجار، ما ينتج عنه انعدام الضغط في الداخل وزيادة الضغط من الخارج، فيصبح البناء أشبه بكرة قدم «سُحب الهواء من داخلها فتنكمش على نفسها».
ويضاف إلى الضغط الهائل للغلاف الجوّي، قوة انفجار ناتجة عن اشتعال مكوّنات القنبلة، وارتفاع هائل في الحرارة الناتجة عن الاشتعال السريع. وهكذا، تكون القنبلة الإفراغية مزيجاً من «الصدم الانفجاري والتفريغ الجوّي والحرارة العالية»، ما يؤدي إلى تدمير وانهيار المباني واحتراق واختناق سكان المبنى المستهدف.





استخدم الجيش الأميركي القنابل الإفراغية في الستينيات في فيتنام بهدف تحويل مساحات كبيرة من الغابات إلى أراض قاحلة لاستعمالها كمهابط لطائرات الهليكوبتر. كما استُعملت في 2001 في أفغانستان في مغارات وكهوف تورا بورا لتدميرها وقتل عناصر «القاعدة»، وذلك عبر إفراغ الهواء من داخلها ومسحها.
عام 1982، ألقت قوات الاحتلال الإسرائيلي قنابل إفراغية على مبنى مؤلّف من 7 طوابق في منطقة الصنايع في بيروت ما أدى إلى تدمير المبنى بالكامل وسقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى. كما يمكن الاستنتاج، عبر معاينة طبيعة التدمير في أماكن القصف في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت إبّان عدوان تموز 2006، أن العدو الإسرائيلي استخدم قذائف الضغط الفراغية في حربه على لبنان.

الضاحية الجنوبية 2006 (المصدر: جنوبية)


الدمار في غزة 2023 بالقنابل الإفراغية (المصدر: رويترز).


ملجأ العامرية 1991: القنبلة الإفراغية لحقت المدنين حتى الملاجئ السفلية (المصدر: العربي الجديد)


إضافة إلى ذلك، تُظهر صور أخرى للدمار في قطاع غزة استخدام العدو الإسرائيلي قنابل خارقة للتحصينات (bunker busting)، تسمى غالبًا «خارقة المخابئ»، وهي عبارة عن قنابل تدميرية لاكتشاف الأنفاق. تحفر هذه القنابل الأرض لعشرات الأمتار قبل أن تنفجر، ما يزيد بشكل كبير من قدرتها على تدمير الأهداف المدفونة.

صورة من الدمار في خان يونس: استخدم العدو القنابل الخارقة (المصدر: وكالة صفا)


فوائد تسطيح غزة للعدو
يبدو أن هدم وتدمير المنشآت والأبراج السكنية كان مقصوداً، وذلك لأسباب عديدة تتعلق بمنهجية القصف الجوّي والمدفعي، ونوعية الأسلحة المستخدمة (الخارقة والإفراغية)، إضافة إلى فوائد عسكرية أخرى تخدم خطة العدو الإسرائيلي.
فعلى سبيل المثال، في حالة الغزو البرّي، يمكن أن تساعد الأبراج والمباني العالية المقاومين في عملية المراقبة والاستطلاع والقنص. وفي حال كان البناء مهدّماً يمكن استخدام الطوابق الأرضية كملاجئ ومخابئ، ولكن في حالة «الهدم الإفراغي» الحاصل يتحوّل البناء إلى شطائر من الأسقف «المستّفة» فوق بعضها بعضاً من الأعلى إلى الأسفل وحتى «الأساسات»، ما يحول دون الاختباء أو تنظيم الكمائن.
القنبلة الإفراغية هي مزيج من «الصدم الانفجاري والتفريغ الجوّي والحرارة العالية» ما يؤدي إلى تدمير وانهيار المباني واحتراق واختناق سكانها


كما أن هدم الأبنية العالية بطريقة «الإفراغ» يحوّلها ومحيطها إلى ركام يلتصق بالأبنية المجاورة وبسماكة لا تقل عن ثلاثة أمتار، وهذا يمنع المقاومين من المناورة بخلق ممرات وسراديب ودهاليز بين الأبنية المجاورة بعضها لبعض، ما يجعل عناصر المقاومة مكشوفين وأكثر عرضة للاستهداف عبر المسيّرات.
أما هدم الأبراج فيحوّلها إلى جبال من الركام والأنقاض ويستهلك قدرات الفلسطينيين ويجبرهم على استخدام الآليات الموجودة والقليلة لرفع الأنقاض ونقلها إلى مكان آخر، ما يقلل عدد الآليات المتاحة ومخزون الوقود وقطع الغيار. وبالتالي يحدّ من قدرة المقاومة على استعمال تلك الآليات في أعمال التحصين والتدشيم وحفر الخنادق.

* مهندس مدني، عاين الدمار في الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان إبّان عدوان 2006