حاولت التصريحات الصادرة عن السلطات الفرنسيّة، بمختلف ممثليها وكل ما يندرج حولها من حملات إعلاميّة و«بروباغندا»، التشديد على الدعم غير المشروط لدولة الاحتلال الإسرائيلي، بشكلٍ علنيّ وصريح، ونادت بكلّ وقاحةٍ بحقّه في الدفاع عن نفسه من جهة، وجرّمت، من جهةٍ أخرى، حركات المقاومة الفلسطينيّة وكل الفعاليّات التضامنيةّ مع الشعب الفلسطيني، وذلك بتشريعِ كل التدابير القمعيّة لمواجهتها. الخطوة التي اتّخذها وزير الداخليّة الفرنسي هي الأولى من نوعها في العالم بأسره، فقد فرض، متباهياً، حظراً مُمَنهجاً على جميع التظاهرات المؤيّدة لفلسطين في فرنسا واعتقالِ أيّ شخصٍ ينتهك هذا الحظر مصرّحاً بأنّ «أيّ تحرّكٍ داعمٍ للقضيّة الفلسطينيّة يهدُف إلى إضفاء الشرعيّة على أعمالٍ ذات طبيعة إرهابيّة»
كما جرت العادة في ظروف الأزمة الحادّة للنظام الرأسمالي المعولم، تنتشر بشكل مكثّف الدعاية والحجج الزائفة حول الخير والشرّ بهدف حجب حقيقة الحروب الإمبريالية التي تشكّل تكويناً عضويّاً للنظام الرأسمالي في مرحلته المتقدّمة من التعفّن. لا يمكن الإنكار أنّ الإمبرياليّة الفرنسيّة تمرّ بمأزقٍ تاريخيّ من جهة التراجع النسبي لهيمنتها الاقتصادية في أفريقيا والمغرب العربي والشرق الأوسط. كما لا يمكن الإنكار أن هذه الفترة تتميّز أيضاً بارتفاع الغضب والاحتجاج الاجتماعي في الشارع الفرنسي ضدّ السياسة النِيوليبراليّة وتقشفها الذي لا مفر منه: من حركة السترات الصفراء إلى التحركّات ضدّ تعديل قانون العمل، ومن التظاهرات الحاشدة ضدّ جرائم الشرطة إلى التحركّات المعارضة لقانون الأمن العام، ومن الإضراب الطويل لعمّال النظافة إلى الإضرابات المستمرّة في شركة البريد «كرونوبوست»، ومن تمرّد الأحياء الشعبيّة في الصيف الماضي إلى الفعاليّات المعارضة لتعديل قانون البطالة، ومن التحركّات الحاشدة ضدّ تعديل نظام التقاعد إلى التظاهرات الرافضة لقانون المهاجرين وغيرها. إستجابةً لهذا الواقع المتأزّم في الخارج والداخل لا سيّما في السنوات الماضية، ومن أجل الحفاظ على مصالح الطبقة البرجوازية وحماية نمط الإنتاج الرأسمالي ومعدّلات ربحه، عمدت السلطات الفرنسية، من جهة، الى نشر خطاب فاشي في الحياة السياسيّة، وإصدار قوانينٍ تزيد من الرقابة البوليسيّة والعنصريّة، والى إعداد رأيٍ عامّ على الأقلّ غير مبالٍ بالتدخّلات العسكريّة العنيفة والدامية التي تجريها وتتحضر لها السلطات الفرنسية في الخارج، وفرضت من جهة أخرى سياسة قمعيّة تقوم على استخدام كل وسائل القمع البوليسيّة القانونيّة القضائيّة والإعلاميّة المتاحة لإضعافِ التحركات الاجتماعيّة المدافعة عن المُكتَسبات الاجتماعيّة للطبقة العاملة.
القمع الذي تواجهه التحركّات الداعمة للقضيّة الفلسطينيّة يندرج في إطار هذا النهج العامّ التي تعتمده الدولة البوليسيّة والديكتاتوريّة الفرنسيّة. وعندما نتحدّث عن القضيّة الفلسطينيّة، يشتدّ القمع بصورة مكثّفة، إذ تشكّل القضيّة الفلسطينيّة قضيّة مركزيّة لكلّ شعوب العالم المضطهدة من الإمبريالية العالمية ومشاريعها الكولونياليّة ولكل الشعوب العربيّة الرافضة للأنظمة العربيّة المتآمرة. مركزيّة هذه القضيّة تُعرّضها لقمعٍ أعنف من أيّ قضيّةٍ أخرى. كما صرّح المناضل جورج عبد الله: هذا الكيان الصهيوني يشكّل امتداداً عضويّاً للإمبرياليّة الغربيّة من أجل حماية النظام الرأسمالي العالمي ومصالحه في منطقتنا وخيرُ دليل ٍعلى ذلك تسارع كل هذه الأنظمة الغربية إلى إبداء الدعم غير المشروط لهذا المحتلّ والتصريح بأن مصالح هذه الأنظمة مرتبطة بشكلٍ عضويّ بهذا الكيان.
لم تنتظر هذه الأنظمة الغربيّة هذا الحدث أو ذاك لتفصِح جهاراً عن موقفها المجرم بحقّ القضيّة الفلسطينيّة، فهي دعمت وتدعم بشكلٍ مستمرّ دولة الاحتلال سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً، وتقمع بكل ما يلزم جميع حركّات التضامن مع المقاومة الفلسطينية عبر تجريمها، ومنع حركات المقاطعة للمنتجات الإسرائيليّة وتلك الداعمة اقتصاديّاً لهذا الكيان، وحلّ الجمعيّات الداعمة لفلسطين والإبقاء على المناضل الأممي والمُدافع عن القضيّة الفلسطينيّة جورج عبد الله في السجون الفرنسية لـ39 عاماً. في الأيّام الماضية، كثّفت السلطات الفرنسية من سياستها القمعيّة تجاه الفعاليّات الداعمة لفلسطين عبر اتّخاذ العديد من التدابير التي أقلّ ما يمكن وصفها بالاستبداديّة. كما هرعت الدولة الفرنسية، أسوة بنظيراتها الغربية، بمختلف مكوناتها لزيارة الكيان الصهيوني لتأكيد شرعيته، ودعم وجوده، و«تلميع» صورته في أعيُن المجتمعات الغربية وإسناد سرديته «بحقه في الدفاع عن النفس» أي ارتكاب المجازر بحق الشعب الفلسطيني. هذا الاستنفار الغربي يؤكد طبيعة هذا الكيان المحتلّ وعدم إمكانية تعايشه مع أيّ هزيمةٍ مهما كان حجمها، فأيّ هزيمة تُنذر ببدء نهايته. من هذا المنطلق، نجد اليوم الأنظمة الغربيّة وإعلامها مجنّدة لإعادة هيبة دولة الاحتلال.
واجه المشاركون في الفعاليّات التضامنية مع الشعب الفلسطيني التغريم والاعتقال من جهة، والعنف البوليسيّ الذي تشتهر به الدولة الفرنسية حاليّاً من جهةٍ أخرى. كذلك داهمت الشرطة الفرنسيّة، على شاكلة جيش الاحتلال، بيت اثنين من النقابيّين في «الكونفدراليّة العامّة للعمل» السادسة من صباح 20 تشرين الثاني واعتقلتهما بسبب بيانٍ أعربت فيه الكونفدراليّة عن تضامنها مع الشعب الفلسطينيّ المناضل ضدّ الاحتلال. ورغم أنّ مجلس الدولة الفرنسي أكّد في 18 تشرين الأوّل عدم قانونية المنع التلقائي للتظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني، تواصلت قرارات المنع في مختلف المدن الفرنسية وتفنّن أصحابها في تجريم النشاط التضامنيّ مع فلسطين عبر وضعه في خانة الإرهاب، ووصفه بالعنصريّ ضدَ اليهود والعرق الساميّ، حدّ القولِ إنّ «كل تظاهرة داعمة للشعب الفلسطيني تشكّل بحد ذاتها انتهاكاً لكرامة الإنسان»!
غير أنّ هذه التهديدات لم تقف عائقاً أمام المتضامنين ولم تمنعهم من النزول إلى الشارع والصراخ بصوتٍ عالٍ: «إسرائيل» مجرمة وفرنسا شريكة في الجريمة! ورغم إصدار المحكمة الإداريّة الفرنسيّة، في مناسبات عدّة، قراراتٍ بتعليق المنع الصادر بحق التظاهرات الداعمة لفلسطين، فإن هذه القرارات أتت بشكل متأخّر، كالعادة، حتى أنّها وصلت أحياناً بعد أكثر من ساعة من بدء النشاط وذلك في إطار التخريب الممنهج لهذه الأنشطة والحدّ من فعاليّتها. وفي سياقٍ متصل، طاول قرار الحظر كل الفعاليّات المطالبة بالإفراج عن المناضل جورج عبد الله وآخرها تظاهرة 21 تشرين الأوّل أمام سجنه في «لانميزان»، حيث علّقت المحكمة الإداريّة الفرنسيّة قرارَ المنعِ الصادر في 20 تشرين الأوّل قبل نصف ساعة من موعد التظاهرة. ورغم هذا الحظر، كانت التظاهرة حاشدة واستطاع المتضامنون إيصال صوتهم إلى داخل السجن للتشديد على ضرورة تكثيف كل الفعاليّات بمختلف أشكالها لتغيير موازين القوى وفرض الإفراج عن عبد الله.
القمع الذي تواجهه التحركّات الداعمة للقضيّة الفلسطينيّة يندرج في إطار النهج العامّ التي تعتمده الدولة البوليسيّة والديكتاتوريّة الفرنسيّة


هذه المواقف السياسيّة وهذا القمع البوليسيّ يترافقان مع دعاية إعلاميّة بغيضة على نطاق واسع من السخرية والإجرام على حدٍّ سواء، بدءاً من تجريد الفلسطينيّ من إنسانيته وتجريمه وصولاً إلى طمس حقيقة الاحتلال وجرائمه. تعمل وسائل الإعلام الغربيّة ككلاب حراسة للكيان الصهيونيّ، تقود حربه الإعلاميّة وتشارك في جرائمه بحقّ شعوبنا. كلّ النفاق الّذي سمعناه في الآونة الأخيرة، وما زلنا نسمعه، يهدف لإخفاء حقيقة الاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ، لتجريم حقّ الشعوب بمقاومة الاحتلال، تصفيةً لكلّ شرعيّة للكفاح المسلّح ولتبرير كلّ المجازر التي ارتكبها ويرتكبها المحتلّ.
إنّ المقولات الكاذبة والمجرّمة والعنصرية التي ترددت أخيراً لا تعدّ ولا تُحصى، نظراً لغزارتها. تسمية ما يجري في المنطقة بحربٍ بين «حماس» و«إسرائيل» خيرُ دليلٍ على ذلك، عزلُ «حماس» كمقاومةٍ إسلاميّة عن كلّ الفصائل الأخرى المشاركة بالمقاومة خيرُ دليلٍ على ذلك، إخفاء كل التاريخ الاحتلالي للكيان الصهيوني ووصف ما يجري في المنطقة بـ«الحرب الدينية» خير دليل على ذلك، الادّعاء أن غزّة ليست ولم تكن أبداً محاصرة خيرُ دليلٍ على ذلك، التشديد على أنّ حياة «المواطن الإسرائيلي» هي بقيمة حياة المواطن الأوروبي وما يعنيه عن قيمة حياة المواطن الفلسطيني خيرُ دليلٍ على ذلك، التعاطي مع الضحايا الفلسطينيّين كأضرارٍ جانبيّة وأعدادٍ مجرّدة من إنسانيتها خيرُ دليلٍ على ذلك، وضع مسؤولية استشهاد الآلاف في غزّة على عاتقِ المقاومة التي «تستخدم الأطفال والنساء كدروع بشريّة» خيرُ دليلٍ على ذلك، إجراء نقاشٍ سياسيّ بكل وقاحة حول ما إذا كان على دولة الاحتلال إنقاذ الرهائن ثم قصف غزّة أو العكس خيرُ دليلٍ على ذلك. والقائمة تطول...
إن حركات التضامن مع فلسطين في العالم لم ولن تتقاعس جرّاء حظر من هنا أو اعتقالٍ من هناك، لا بل إنّها صامدة وتتوسّع. وهذا ما شهدناه في الأيام الماضية. تظاهراتٌ حاشدة في مختلف البلدان العربيّة ومختلف بلدان العالم لتواجه كلّ محاولات المنع والقمع والتخريب وتردّد بأعلى صوت «فلسطين حرّة». بمقاومته، الشعب الفلسطينيّ يعلّم شعوب العالم الصمود والنضال في سبيلِ التحرّر من الاستعمار والاستغلال.
وختاماً، كما ردّد المناضل جورج عبد الله، «التضامنُ سلاحٌ أساسيٌّ لكلّ أولئِك الّذين يقاومون ويرفضون أن يساوموا، إنّه سلاحٌ يجب علينا أن نتقن استخدامه لدفع النضال قُدُماً».