في 24 تموز الماضي، أصدر المجلس المركزي لمصرف لبنان تعميمان رقمهما 675 و676، ويتعلقان بتسوية أوضاع المصارف المتعلقة بما يسمّى «مراكز القطع». باختصار، التعميمان، رسما طريقاً لتصفية مراكز القطع المفتوحة لدى المصارف، سواء كانت هذه المراكز سلبية أو فائضة (تقول المعلومات إن مراكز القطع السلبية تبلغ 8 مليارات دولار وهي موزّعة لدى غالبية المصارف). وهما يفرضان على المصارف أن تبيع لمصرف لبنان أي فائض لديها ناتج من مراكز القطع بسعر صرف يبلغ 15 ألف ليرة، وأن تغطّي المراكز السلبية عبر اقتطاع مؤونات من رساميلها. فجّر ذلك موجة اعتراضات من أصحاب المصارف الذين اعتبروا أن مصرف لبنان سيستولي على فوائض بعض المصارف بسعر بخس ضمن مهلة حدّدت بـ31/8/2023، وأنه سيزيد من خسائر المصارف الناتجة من المراكز السلبية. وهذا ما دفع المجلس المركزي في مصرف لبنان، بعد تسلّم منصوري مهام الحاكمية، إلى تعليق العمل بالتعميمين في انتظار مزيد من الدرس.
(هيثم الموسوي)

بالفعل، بعدما اطلع المجلس المركزي على دراسة من لجنة الرقابة على المصارف، وبعد تشاور بين الأعضاء، اتُفق على إصدار آلية تطبيقية. وبالفعل صدر التعميم 683 في 17 تشرين الثاني، لكنه بدلاً من توضيح المسألة، زادها غموضاً واستنسابية. فبموجبه مُنحت المصارف مهلة أطول للتصفية، إذ حُدّدت بتاريخ 31/12/2024 لتصفية الفوائض بشكل كامل وفق سعر الصرف الذي يتعامل فيه مصرف لبنان مع المصارف، وبتاريخ 31/12/2024 لتصفية 50% من الخسائر. كذلك، مُنحت المصارف إمكانية الطلب من المجلس المركزي لمصرف لبنان، الحصول على «استثناء» إذا تعذّر عليها تسوية الخسائر، أو الحصول على استثناء «خاص» للاحتفاظ بالفوائض ضمن ما سمّي «مركز قطع خاص دائن إضافي».
«الاستثناءات» التي حدّدها المجلس المركزي لمصرف لبنان، صدرت بلا معايير وشروط واضحة لها، بل أنيط تطبيقها، حصراً، بموافقة المجلس المركزي. وإذا أضفنا على ذلك، توسيع المهل الزمنية الممنوحة لتصفية الفوائض والخسائر إلى فترات تمتد أقلّها لنحو سنة، يصبح الأمر عبارة عن مزايدة لشراء الوقت. بل هو ترجمة لما يُنقل عن الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، بأنه لا ينوي القيام بأي خطوة جذرية تجاه المصارف، بل هو يريد حصر مهمّته في موقع الحاكم بالإنابة بـ«الحفاظ على استقرار سعر الصرف»، إضافة إلى بعض تحسين مستوى الأعمال الإدارية في مصرف لبنان وقواعد العمل والشفافية فيه. ومنصوري أعرب أمام الكثيرين (آخرها كان في لجنة المال والموازنة قبل أيام)، أن العلاج الجذري للمصارف يكمن بيد الحكومة ومجلس النواب اللذين لم يتحرّكا بعد على هذه الجبهة منذ انفجار الأزمة، بل ظلّ يردّد أنه ليس معنياً باتخاذ قرارات متصلة بالأزمة طالما أن القوى السياسية ترفض القيام بذلك. والحاكم بالإنابة يراهن على أن تطبيق تعميم كهذا ممكناً إذا صار هناك اعتراف وإقرار بأن مشروع موازنة 2024 يتضمن تحديداً لسعر الصرف الذي ستعتمده الحكومة رسمياً. فهو سيعترف بسعر الصرف الجديد وسيعكس ذلك على ميزانية مصرف لبنان والمصارف.
نواب الحاكم، ولا سيما النائب الثالث سليم شاهين، لا يحبّذّون هذه الدرجة من الحياد انطلاقاً من أن المعالجات التقنية لا يجب أن تنأى بنفسها، في ظل غياب المعالجات السياسية. وهذا الاختلاف في الرأي، أدّى إلى تأجيل صدور الآلية التطبيقية للتعميم لأكثر من شهرين. لكن على ما يبدو أن وجهة نظر منصوري تقدّمت في هذا النقاش. قد يكون تمكّن من إقناع أو بلورة رأي منسجم بين نواب الحاكم وفي المجلس المركزي تجاه هذه المسألة تحديداً، وهو ما أدّى إلى صدور التعميم 683 بشكل لا يمكن تفسيره إلا في إطار استمرار سياسة محاباة المصارف عبر شراء المزيد من الوقت. فالواقع، هو أن منصوري يردّد منذ استلامه منصب الحاكمية بالإنابة، أنه حاكم بالإنابة، وهو يدرك تماماً أن سلوكه خارج هذا الإطار يرتّب نتائج ليست في مصلحة أي طموح مستقبلي يرغب فيه. وهذا ما تمكّن من ترجمته مباشرة في أداء المجلس المركزي. إذ إن هذا الأخير بات يفضّل شراء الوقت على أن يتحمّل المسؤولية منفرداً. هذه المسؤولية تفترض أن يكون هناك علاج واضح للمسألة الأساسية في مصرف لبنان والمصارف: الخسائر. وبما أن توزيع الخسائر ليس بنداً مدرجاً على جدول أعمال السلطة اليوم، ولم يكن مدرجاً على جدول أعمالها منذ انفجار الأزمة (توقيت انفجار الأزمة مختلف عليه، لكن توقف مصرف لبنان عن الدفع وصدور تعميم يميّز بين السيولة بالدولار الفريش وسواها صدر في 30 أيلول 2019 ثم تلتها أحداث 17 تشرين وإقفال المصارف لنحو 12 يوم عمل)، يعتقد نواب الحاكم وأعضاء المجلس المركزي أن التعامل مع الأزمة بشكل منفرد مع توزيع الخسائر، يستجلب تحمّل مسؤولية البند الأكثر حساسية الذي روّج له كثيراً بعنوان «قدسية الودائع».
التعميم 683 مدّد مهلة تغطية مراكز القطع وأتاح للمصارف الحصول على استثناءات «استنسابية»


في الواقع، تمكّنت قوى السلطة من تأجيل أي بحث في توزيع الخسائر عبر استبدال مسألة «توزيع الخسائر» بـ«قدسية الودائع»، وذلك رغم أن الجميع مدرك بأن الخسائر وقعت بالفعل وأطاحت بالنسبة الأعظم من الودائع. لكن لا أحداً يريد الإقرار حتى لا يضطر للتعامل مع تبعات الإقرار. وفي هذه الحال، لا يرى منصوري ورفاقه في المجلس المركزي أن هناك أي مبرّر لتنفيذ مهمة انتحارية كهذه.
ظهور اقتراحات تتعلق بإعادة هيكلة المصارف، أو حصول نقاشات بشأن صندوق استرداد الودائع، أو غير ذلك ما أثير قبل الاتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي، وبعد هذا الاتفاق، ليس مؤشّراً على سلوك طريق العلاج والحلّ، إذ إن السياق الزمني ومضمون هذه الاقتراحات والنقاشات يوحي بالعكس تماماً، لأن قوى السلطة غارقة في بيع الأوهام لمودعين اكتفوا بالحصول على 400 دولار شهرياً ضمن سقف أقصى يبلغ 50 ألف دولار لكل وديعة. وهذا بحدّ ذاته توزيع للخسائر، لكنه يحصر الأمر بتوزيع الخسائر المصرفية، بينما يتحمّل المقيمون في لبنان أعباء التضخّم الهائل والركود الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة التي نتجت من هذه المماطلة.