أربعة حروب مدمّرة شنّتها إسرائيل على غزة في أعوام 2008 و2012 و2014 و2021 قصفت فيها المنازل والمباني السكنية ودمّرت المؤسسات المدنية والمدارس والملاجئ والمستشفيات واستهدفت أطقماً إعلامية. المشهد نفسه يتكرر في عام 2023، ولكن على نحو أكثر شراسة ودموية. وتتراكم الأدلة الدامغة على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يجري توثيقها على قدم وساق من قبل منظمات دولية حكومية وغير حكومية. ويبقى السؤال: متى ستساق إسرائيل إلى منصة الاتهام؟ في سياق متابعة إمكانية مقاضاة إسرائيل وملاحقتها دولياً، يأتي هذا المقال لرصد الآليات الدولية القضائية والدبلوماسية المتوافرة التي تمّ استخدامها فعلاً ضد الكيان الصهيوني.
شكاوى لاستهداف الصحافيين عمداً
بلغ عدد الصحافيين الشهداء في غزة 70 (بحسب آخر إحصاء للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة)، وكانت غاية العدو واضحة بترهيب العاملين في الصحافة لإخفاء جرائمه. وقد تقدّمت «مراسلون بلا حدود»، وهي منظمة غير حكومية، بعريضة تتعلّق بجرائم حرب إلى مكتب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تطالبه بالتحقيق في كل عمليات استهداف الصحافيين في غزة منذ بدء القتال في 7 تشرين الأول. وهذه ثالث شكوى ترفعها المنظمة إلى مدّعي المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم الحرب المُرتكبة ضد الصحافيين الفلسطينيين في غزة منذ عام 2018. ويعود تاريخ الشكوى الأولى إلى أيار/ مايو 2018 حول قتل صحافيين أو جرحهم في القطاع خلال «مسيرات العودة». وقُدِّمت الثانية في أيار/ مايو 2021 بعد قصف الجيش الإسرائيلي مقرات نحو 20 وسيلة إعلامية في قطاع غزة، كما دعمت «مراسلون بلا حدود» الشكوى التي رفعتها قناة «الجزيرة» بشأن مقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في الضفة الغربية في 11 أيار/ مايو 2022.
أما لبنان، فقد تقدّمت بعثته الدائمة لدى الأمم المتحدة بشكوى أمام مجلس الأمن الدولي بعد ارتكاب إسرائيل جريمة قتل متعمّدة للمراسلة الصحافية فرح عمر والمصوّر ربيع المعماري العامليْن في قناة «الميادين»، إضافة إلى المواطن اللبناني حسين عقيل. وكانت سبقتها شكوى مماثلة بعد استهداف مجموعة من الصحافيين، ما أدى إلى استشهاد المصوّر عصام عبدالله وجرح آخرين من وسائل إعلام مختلفة عربية وعالمية. وتأتي هذه الشكوى تطبيقاً لميثاق الأمم المتحدة في المادة 34 التي تنصّ على أن «لمجلس الأمن أن يفحص أي نزاع أو موقف قد يؤدي إلى احتكاك دولي أو قد يثير نزاعاً لكي يقرر ما إذا كان استمرار هذا النزاع أو الموقف من شأنه أن يعرّض للخطر حفظ السلم والأمن الدولييْن»، والمادة 35 التي تمنح «لكل عضو من الأمم المتحدة أن ينبه مجلس الأمن أو الجمعية العمومية إلى أي نزاع أو موقف من النوع المشار إليه في المادة 34». من هنا تأتي أهمية الشكوى لأنها تدعو المجلس إلى الاضطلاع بمهامه الأساسية في حفظ الأمن والسلم الدولييْن.

مكتب الادّعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية والدور المرتقب
أعلنت المحكمة الجنائية الدولية، بعد ضغوط دولية، أنها تجري تحقيقاً في جرائم الحرب ــ بحسب موقع المحكمة الإلكتروني ــ التي ارتكبتها إسرائيل في هجومها المستمر على غزة منذ 7 تشرين الأول الماضي. وزار المدّعي العام للمحكمة كريم خان معبر رفح المصري، في 29 تشرين الأول الماضي، وصرّح أن «ما يحدث في قطاع غزة لا يمكن قبوله، وأن السكان يتحمّلون معاناة لا يمكن تصوّرها»، واصفاً ذلك بأنه أمر لا يمكن الدفاع عنه. ودعا إسرائيل إلى عدم تأخير دخول المساعدات المنقذة للحياة إلى قطاع غزة، محذّراً من أن منع المساعدات الإنسانية يشكّل جريمة وسط كارثة إنسانية غير مسبوقة.
تحرك المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية هو تطبيق لنص المادة 15 من نظام روما الأساسي للمحكمة، وفيها أن «للمدعي العام أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة». وبناءً على هذه المادة، يحق لأي فرد أو مجموعة كالمنظمات غير الحكومية، إرسال معلومات بشأن جرائم مزعومة إلى المدّعي العام عملاً بالفقرة الثانية من المادة 15 التي تنص على أن «يقوم المدعي العام بتحليل جديّة المعلومات المتلقّاة، ويجوز له لهذا الغرض التماس معلومات إضافية من الدول أو أجهزة الأمم المتحدة أو المنظمات الحكومية الدولية أو غير الحكومية أو أيّ مصادر أخرى». وبالفعل، صدر عن عدد من منظمات حقوق الإنسان في فلسطين (مؤسسة الحق ومركز الميزان لحقوق الإنسان والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان)، نداء مشترك يحثّ المدّعي العام على التحقيق في الجرائم التي تتكشّف في الأراضي المحتلة منذ 7 تشرين الأول ومقاضاة مرتكبيها. علماً أنها ليست المرة الأولى التي يقدّم فيها الفلسطينيون عرائض إلى مكتب المدّعي العام. فمنذ أن أصبحت فلسطين عضواً في المحكمة الجنائية الدولية عام 2015، قدّم الفلسطينيون عدداً من العرائض ضد الكيان المحتل، من بينها شكوى ضد سياسة إسرائيل في طرد الفلسطينيين من أراضيهم في ظروف «لا تبرّرها الضرورة العسكرية»، والمتعلقة بحي الشيخ الجراح، وتمّ فتح التحقيق من قبل المدّعية العامة السابقة للمحكمة فاتو بنسودا، عام 2021، بناءً على الدراسات الأولية التي أثبتت وجود «أساس معقول للاعتقاد بأن السلطات الإسرائيلية ارتكبت أو ترتكب جرائم حرب» ضد الفلسطينيين.

الجمعية العامة للأمم المتحدة وطلب فتوى من محكمة العدل الدولية
بموجب المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنصّ على أنه «لأيّ من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أن يطلب إلى محكمة العدل الدولية إفتاءه في أيّ مسألة قانونية»، طلبت الجمعية العامة، في 8/12/2003، من محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري في الجدار الفاصل في الضفة الغربية. وصدر الرأي في 9/7/2004 باعتبار الجدار مخالفاً للقانون الدولي ويجب إزالته. وتوجّهت الجمعية العامة مرة ثانية للحصول على رأي استشاري آخر بشأن ممارسات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ففي 30 كانون الأول 2022، اعتمدت الجمعية العامة قراراً طلبت بموجبه من محكمة العدل الدولية إصدار رأي استشاري بشأن المسائل الآتية، مع مراعاة قواعد ومبادئ القانون الدولي، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان والقرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان والفتوى الصادرة عن المحكمة في 9 تموز 2004:
(أ) ما هي التبعات القانونية الناشئة عن استمرار انتهاك إسرائيل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، من احتلالها الطويل الأمد واستيطانها وضمّها للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك تدابير تهدف إلى تغيير التركيبة الديمغرافية، والطابع والوضع لمدينة القدس المقدّسة، ومن اعتمادها لتشريعات وتدابير تمييزية ذات صلة؟
(ب) كيف تؤثر سياسات وممارسات إسرائيل المشار إليها على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي التبعات القانونية التي تنشأ عن هذا الوضع بالنسبة إلى جميع الدول والأمم المتحدة؟.
حدّدت محكمة العدل الدولية، تاريخ 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 كحد زمني لتقديم البيانات المكتوبة من قبل المنظمات الدولية والدول المعنية. وأعلنت أن افتتاح جلسات الاستماع العامة بشأن طلب الرأي الاستشاري سيكون في 19 شباط 2024.
صرّح مسؤولون في الكيان المحتل أنه «في حال قرّرت محكمة العدل في لاهاي أن إسرائيل تمارس احتلالاً طويل الأمد في الضفة الغربية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تعقيد الوضع إلى حد كبير من الناحية القانونية. يمكن اعتبار الاحتلال الطويل الأمد ضمّاً فعلياً، مع كل ما يترتب على ذلك من آثار في القانون الجنائي الدولي. على سبيل المثال، في مثل هذه الحالة، من الممكن فرض عقوبات على إسرائيل، وحتى إدخال إسرائيل في عزلة سياسية». ( نقلاً عن العربي الجديد)

إجراءات دبلوماسية ضد إسرئيل
جنوب أفريقيا كانت من أولى الدول التي وقفت ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، وهي لم تستخدم عبارات رمادية بل شخّصت تماماً ما يجري في غزة من جرائم ضد الإنسانية. وجاء تحرّكها على مستويين، أولاً على المستوى الدبلوماسي، قامت بريتوريا باستدعاء دبلوماسييها من تل أبيب، تلت ذلك خطوة تصعيدية وإن كانت رمزية من قبل البرلمان بالتصويت لمصلحة اقتراح بإغلاق السفارة الإسرائيلية في بريتوريا، وتعليق العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب حتى توافق على وقف إطلاق النار. ووفق وسائل إعلام أفريقية فقد لقي مشروع القرار تأييد 284 نائباً في البرلمان مقابل 91 نائباً ضده.
التحرك الثاني كان على المستوى الدولي، وهو طلب فتوى مباشرة من محكمة العدل الدولية باعتبار إسرائيل دولة عنصرية. كذلك طالبت حكومة جنوب أفريقيا بالاعتراف بفلسطين كدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة.
دول أخرى اتخذت إجراءات دبلوماسية تعبيراً عن رفضها لما ترتكبه إسرائيل من جرائم حرب، وكانت بوليفيا أولى الدول التي أعلنت قطع العلاقات الدبلوماسية مع كيان العدو، فيما استدعت دول أخرى في أميركا اللاتينية، كهندوراس وكولومبيا وتشيلي، سفراءها من تل أبيب، كذلك فعل الأردن والبحرين.
من الدول الأوروبية التي اتخذت موقفاً واضحاً هي إسبانيا. فقد أعلنت بلدية برشلونة تعليق العلاقات مع إسرائيل حتى وقف إطلاق النار واحترام الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. وأعلن رئيس الوزراء الإسباني أن إسبانيا منفتحة على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو موقف يشكل دعماً واضحاً للقضية الفلسطينية.
العدوان لم ينته بعد، وكلما طالت الحرب الهمجية، خسرت إسرائيل الدعم الدولي وازدادت المطالبات بوقف مجازرها.
إن عقوداً من سياسة الإفلات من العقاب لن تؤدي سوى إلى مزيد من الحروب والمزيد من المقاومة. وإفلات إسرائيل من العقاب عن جرائمها منذ نشأتها لا يبرّر التقاعس عن الدفاع عن الحقوق المشروعة التي تتطلّب الصبر والنفس الطويل، ولسوء حظ إسرائيل، فإن كل جرائمها لا تعرف السقوط بمرور الزمن.