عقب زيارةٍ قام بها الأسبوع الماضي إلى فلسطين المحتلّة، قال المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان لصحيفة «هآرتس الإسرائيلية: {إن الهجمات ضد المدنيين الإسرائيليين الأبرياء في 7 أكتوبر تمثّل بعضاً من أخطر الجرائم الدولية التي تهزّ ضمير الإنسانية، وهي جرائم أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية خصيصاً للنظر فيها». علماً أن المحكمة، بحسب نظامها الأساسي (نظام روما 1998)، «لها السلطة لممارسة اختصاصها على الأشخاص إزاء أشدّ الجرائم خطورة». لكن، ربما لم ينتبه خان إلى أن «أشد الجرائم خطورة» ليست أسر عددٍ من الأشخاص يوم 7 تشرين الأول الفائت، بل ارتكاب آلاف المجازر والهجمات الجنائية الوحشية والممارسات القمعية اللاإنسانية التي نفّذها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين منذ أكثر من 70 عاماً ويواصلون ممارستها. وقد قامت منظمة الأمم المتحدة والعديد من الهيئات الدولية التي تتمتّع بمصداقية دولية عالية بتوثيق هذه الممارسات والارتكابات، غير أنّ كريم خان قرّر على ما يبدو تجاهلها وتناسيها.
ازدواجية المعايير
تركيز خان على عشرات الأسرى الإسرائيليين وإهماله آلاف الضحايا الفلسطينيين، من بينهم أطفال ونساء ومرضى وشيوخ، يدلّ على أنه يميّز عنصرياً ضد الفلسطينيين من جهة، ويعلن للعالم أن المحكمة التي يعمل فيها أُسّست للدفاع عن الإسرائيليين قبل غيرهم من البشر. ولا عجب في ذلك، فقبل تعيينه مدعياً عامّاً دولياً خلفاً لفاتو بن سودا، كان كريم خان المرشّح «المثالي» بالنسبة إلى «إسرائيل»، كما أعلنت صحيفة «ذا تايمز أوف إسرائيل» (13 شباط 2021). وها هو يثبت للإسرائيليين أنه مثاليٌّ في تضليل الحقائق، وفي الانحياز لطرف على حساب آخر كما تدلّ تصريحاته مقارنةً بتصريحاتٍ أدلى بها قبل أسابيع إثر زيارته لمعبر رفح، اعتبر فيها أن الحصار ومنع إدخال المساعدات الغذائية والأدوية والطواقم الطبية إلى غزّة «قد يشكّلان تجاوزاً للقانون الدولي الإنساني». وهو في رفح تحدّث عن احتمالات، أما في الكيبوتس الإسرائيلي، فقد سمح لنفسه بإصدار إدانات استباقاً لنتائج التحقيق.
ودعا خان أثناء زيارته لفلسطين المحتلة إلى «الإفراج الفوري عن الرهائن الإسرائيليين الذين تمكّنت حركة حماس من اختطافهم في 7 تشرين الأول الفائت». وأضاف: «لا يمكن أن يكون هناك أيّ مبرّر لاحتجاز أي رهائن، ولا سيما الانتهاك الصارخ للمبادئ الأساسية للإنسانية عبر أخذ الأطفال والاستمرار في احتجازهم». وشدّد على أنه «لا يمكن معاملة الرهائن كدروع بشرية أو أوراق مساومة».
ألا يستدعي توحيد المعايير دعوةَ كريم خان سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى الإفراج الفوريّ عن آلاف المعتقَلين الفلسطينيين في سجون التعذيب الإسرائيلية؟ علماً أنّ من بين المعتقلين الفلسطينيين أطفالاً ونساء وأطباء ومسعفين اعتُقلوا تعسّفياً واحتُجزوا إدارياً لمدد غير محدّدة.
ادّعى خان أنه لم يستطع زيارة قطاع غزّة من دون أن يشرح الأسباب الحقيقية لذلك. هل منعه الجيش الإسرائيلي؟ ألا يستدعي ذلك، في الحد الأدنى، بيان استنكارٍ يصدر عن المحكمة الجنائية الدولية؟ أم أنّ خان لم يُمنع من زيارة غزّة بل فضّل الاستعاضة عن الزيارة بإطلاق تصريحات استعراضية فارغةٍ أمام معبر رفح؟

خلاصات من الكيبوتس
زار خان المستعمرات الحدودية التي تعرّضت للهجوم في 7 تشرين الأول الفائت، واستمع إلى روايات عمّا حدث هناك من عدد من الإسرائيليين. وقال: «في كل من كيبوتس بئيري وكيبوتس كفار عزة، وكذلك في موقع مهرجان نوفا للموسيقى في رعيم، شهدت مشاهد من القسوة المتعمدة». ولكن، كيف يمكن أن يحسم المدّعي العام، عبر زيارة واحدة واستناداً إلى أقوال أشخاص التقاهم، أن «القسوة» كانت «متعمّدة»؟ ألا يشكّل ذلك خلاصةً تستبق التحقيق؟
وفي إشارة إلى لقائه مع عائلات الأسرى الإسرائيليين وذوي القتلى، قال المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية: «كانت رسالتي واضحةً: نحن على استعداد للعمل بالشراكة معهم كجزء من عملنا المستمرّ لمحاسبة المسؤولين». واللافت هنا أيضاً أن خان لم يوجّه أي رسالة «واضحة» إلى ذوي آلاف الضحايا الفلسطينيين والناجين من القصف الإسرائيلي على المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد. لا يريد خان أن يعمل مع الجميع من أجل «محاسبة المسؤولين»، ولا شكّ أن رسالته واضحة: هو على استعداد للعمل مع ذوي القتلى الإسرائيليين.
علّق خان أيضاً على العملية العسكرية التي يشنّها العدو الإسرائيلي في غزة بأنه «رغم أي انتهاكات مستمرّة للقانون الإنساني الدولي من قبل حماس والجماعات المسلّحة الأخرى في قطاع غزّة، فإن الطريقة التي تردّ بها إسرائيل على هذه الهجمات تخضع لمعايير قانونية واضحة تحكم النزاع المسلّح». وفي هذا دليل واضح على ازدواجية المعايير. إذ إن خان يسمح لنفسه بالحديث عن «انتهاكات مستمرّة للقانون الإنساني الدولي من قبل حماس»، بينما يمتنع عن مجرد الإشارة إلى أي انتهاكات للجيش الإسرائيلي الذي لم يكفّ عن استهداف المدنيين والمستشفيات والإسعافات والمدارس منذ أكثر من 60 يوماً مستخدماً أحدث الأسلحة الحربية وأكثرها تخريباً ودماراً. بل يدّعي خان أن «هجمات إسرائيل تخضع لمعايير قانونية واضحة»، فهل هي فعلاً واضحة؟ ألم يطّلع خان على تقارير الأمم المتحدة عن عدد الأطفال الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي؟
تحدّث خان في رفح عن «احتمالات»، أما في الكيبوتس الإسرائيلي، فسمح المدّعي العام لنفسه بإصدار إدانات استباقاً لنتائج التحقيق


وذهب خان أبعد من ذلك بكثير باقتراحه تبريرات مبطّنة للجرائم الإسرائيلية بحقّ المدنيّين في غزّة عندما أشار إلى أن «الصراع في المناطق المكتظّة بالسكان، حيث يُزعم أن المقاتلين يتواجدون بشكل غير قانوني وسط السكان المدنيين، هو صراع معقّد بطبيعته، ولكن يجب تطبيق القانون الإنساني الدولي، والجيش الإسرائيلي يعرف القانون الذي يجب تطبيقه». وأضاف: «قامت إسرائيل بتدريب محامين يقدّمون المشورة للقادة ونظاماً قوياً يهدف إلى ضمان الامتثال للقانون الإنساني الدولي». وبذلك، يرجّح المدعي العام الدولي، قبل إجراء أي تحقيق، أنّ «إسرائيل» لم تخرق القانون لأن لديها ضماناً يدفعها إلى الامتثال للقانون.

استباق التحقيق
قال خان إن المحكمة تتمتّع بصلاحية التحقيق في هجوم 7 تشرين الأول، وأنه، بعد زيارته إلى فلسطين المحتلة التي استمرت ثلاثة أيام، كان لديه «سبب للاعتقاد» بأن أفعالاً تم تعريفها على أنها جرائم وفقاً للقانون الدولي قد ارتكبتها حماس في ذلك اليوم. وأضاف: «لم تكن هذه جرائم قتل عشوائية»، مشيراً إلى أن حماس «طاردت الناس»، وأن «الأطفال اختُطِفوا من أسرّتهم». وذكر أيضاً أنّ عدداً من النساء وكبار السن قُتلوا، «بما في ذلك ناجون من الهولوكوست».
أثناء إطلاق هذه التصريحات أمام الصحافة الإسرائيلية، تناسى كريم خان على ما يبدو وظيفته وتغاضى عن أبسط قواعد المحاكمات العادلة والأصول الأخلاقية في عمل النيابات العامة. فعلى أي أساس حسم أنّ حركة حماس «طاردت الناس»، وإلى ماذا يستند بقوله إن «الأطفال اختُطِفوا من أسرّتهم»؟ هل أجرى المحقّقون في مكتبه تحقيقاً قضائياً في هذه الروايات؟ لا. المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية استند إلى أقوال إسرائيليين فقط ولم يجرِ أو يشرف على أي تحقيقات جنائية، ومن دون جمع الأدلّة والتدقيق في إفادات الشهود.
اللافت أخيراً أن خان الذي حسم إدانة حماس، اعترف في المقابلة نفسها بأنه لم يجرِ تحقيقاً في أحداث 7 تشرين الأول الفائت. وقال إنّ مكتبه «سيكون سعيداً بالتعاون مع إسرائيل في التحقيق في أحداث 7 أكتوبر». وتابع في ما يشبه الانبطاح الكامل أمام الإسرائيليين أنه سيقوم بالتحقيق «حتى لو حافظت إسرائيل على سياستها الحالية المتمثّلة بعدم الاعتراف باختصاص المحكمة وعدم التعاون معها».