هل نحتاج إلى «كأس العالم لكرة القدم» من جديد للتعبير عن دعم فلسطين؟ هو سؤال جدير بالطرح في بعض الدول العربية. ففي تلك المناسبة، انكشف مدى الاحتقان في المشاعر تجاه فلسطين. لكن الغريب أن سيل المشاعر الذي انطلق من أمام ملاعب كرة القدم، لم يتزامن مع حدث مؤثّر في الساحة الفلسطينيّة، بمعنى أنّ الاحتلال الإسرائيلي لم يرتكب في ذلك الوقت جرائم ضخمة كالتي يرتكبها اليوم في غزّة، بل كان ذلك التعبير عن موقف المساندة لفلسطين تعبيراً عفويّاً. هنا لا بدّ من طرح سؤال آخر: ما مدى اتّساع هامش الحريّة في الدول العربيّة تجاه القضية الفلسطينية؟شاهد مراسل وكالة الأنباء الفرنسية في 13 تشرين الأوّل الفائت عناصر من الشرطة السعودية يعتقلون مصلّياً هتف في أحد المساجد أثناء خطبة الجمعة متوجهاً إلى الإمام: «تكلّمْ عن فلسطين، غزّة تحت القصف». ووفقاً لما نقله المراسل، فإنّ الأمن السعودي نشر عناصر أمنية حول مساجد أخرى. وهذا الحدث يعتبر واحداً من جملة أحداث بثّت مشاعر تردّد بين السعوديين، إذ اتّضح أمامهم عدم تقبّل السلطات في المملكة لهذه المواقف الداعمة لفلسطين، وفقاً لما نقلته صحيفة «نيويورك تايمز» عن بعض المواطنين في تقرير لها.
وفي تصريح إعلامي، أكد القيادي في الحراك الشعبي المعارض السعودي، حسن صالح، أنه لم يكن مسموحاً للشعب في السعودية يوماً بدعم القضية الفلسطينية، ولذلك تُقمع كل التظاهرات المؤيّدة لهذه القضية. وبحسب الصالح، فإنه بعد انتهاء التظاهرات يُستدعى كل من شارك فيها، ويوقّع على تعهد بعدم المشاركة مرة أخرى، كما أكّد أنّ هناك من جرى اعتقالهم فقط بسبب مشاركتهم في مظاهرات داعمة لفلسطين.
في السياق ذاته، لم يقتصر الاعتقال على المقيمين في السعودية، بل امتدّت محاولات حصار الرأي الداعم لفلسطين لتطال المعتمرين الأجانب. ففي حادثة حصلت منذ أسابيع قليلة، احتجز الأمنُ السعودي الناشطَ البريطاني إصلاح عبد الرحمن لمدة ساعة ونصف ساعة في مدينة مكة المكرمة، وبعد التحقّق من أسباب اعتقاله، تبيّن، وفقاً لقوله، أن السبب هو أنه كان يرتدي «كوفية فلسطينية»، وفي يديه خرز عليه رموز فلسطينية. وقد تكررت تلك الحادثة مع معتمرين آخرين، إذ احتُجِز معتمر تركي أيضاً لأسباب مشابهة.
ووفقاً لما نشره حساب «معتقلو الرأي» على منصة «إكس»، اعتقل الأمن السعودي في تشرين الأوّل المصري عبد الرحمن محمد عبد الرحيم، الناشط على وسائل التواصل الاجتماعي، أثناء وجوده في مكة المكرمة لتأدية مناسك العمرة برفقة والدته، بسبب نشره مقاطع فيديو داعمة لغزّة.
لا ينحصر احتجاز الأجانب الداعمين لفلسطين في المملكة فقط، ففي مصر احتجزت الأجهزة الأمنيّة أربعة نشطاء دوليّين في 30 تشرين الثاني بعد احتجاجهم أمام وزارة الخارجية المصرية، للضغط على الحكومة المصرية للسماح بعبور قافلة «ضمير العالم»، قبل أن تُرحّلهم. وكانت «قافلة الحرية» قد أجّلت تلك الحملة، رغم حاجة غزة إلى المساعدات، أياماً عدة منذ الإعلان عنها، لأسباب أمنية وفقاً لما أعلنته.
على صعيد آخر، بدا مستغرباً السماح للمواطنين في مصر بالقيام بمظاهرات داعمة لغزّة، إذ إنّ التظاهر بكل أشكاله ممنوع منذ عام 2013. وادّعت وسائل إعلام موالية للسلطات المصرية أن التظاهرات التي خرجت، جاءت تلبيةً لـ «تفويض رئاسي» كان، وفقاً لوسائل الإعلام، ضرورياً للحفاظ على «الأمن القومي المصري». وقد جاءت تلك الحركة في الشارع المصري إثر الحملة الغربية والإسرائيلية لنقل سكّان غزّة إلى سيناء.
ومن الواضح أنّ السلطات في مصر كانت ترغب في توجيه تلك المظاهرات نحو مسار محدّد، يعبّر عن رغبات السلطات، ولكن بعد خروج المواطنين عن الاتّجاه العام الذي أرادته الدولة، وبعد انتشار مقاطع الفيديو التي ظهر فيها المصريّون يهتفون بشعارات ربما أحرجت السلطات المصرية، سارعت الشرطة إلى إخلاء التجمّعات، واعتقلت بعض المتظاهرين. ولتوضيح الصورة، لا بدّ من ذكر حادثة أخرى في إطار التعبير عما يحدث في غزّة، حيث استدعت الأجهزة الأمنية المصرية المحرّرين في موقع «مدى» المصري وضايقتهم وهدّدتهم، على خلفية نشر الموقع محادثات بين الجانب المصري والجانبَين الأميركي والإسرائيلي متعلّقة بتهجير سكّان غزّة وتوطينهم في سيناء.
الشعب الإماراتي مع فلسطين والقضية الفلسطينية، ولكنّه لا يستطيع التعبير عن رأيه


وتلقّى المرصد الأورومتوسطي معلومات تؤكّد استدعاء السلطات الإماراتية عدداً من الأكاديميين في جامعات البلاد وناشطي الرأي على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى مقرّات جهاز أمن الدولة، للتأكد من عدم إثارة هؤلاء مواضيع تخصّ الحرب على غزّة، إضافةً إلى قيام الأجهزة الأمنية بحملة توجيه تلقّى أثناءها الحاضرون من الفئات المذكورة تحذيرات من تنظيم أيّ فعاليّات لها علاقة بالتضامن مع غزّة أو التعبير عن آرائهم بشأن القضية. وأورد المرصد جملةً من الانتهاكات المتنوّعة التي تقوم بها الدولة الإماراتية على صُعد عدة، منها الاعتقالات من دون أسباب وجيهة، خصوصاً أولئك الذين ينتقدون السلطات، إضافةً إلى حجب حرية التعبير عن المواطنين أو المقيمين على أراضي الإمارات. واعتقلت السلطات الأمنية رئيس لجنة شباب القدس في الدولة، الناشط منصور الأحمدي، عقب استدعائه من قِبل أمن الدولة في أبو ظبي في 19 تشرين الثاني. فيما بقيت أسباب اعتقاله والتُّهم الموجهة إليه طيّ الكتمان، وقد ذكرت بعض المواقع أنّ السبب هو نشاطه التضامني مع فلسطين.
وكان رئيس «الرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع»، أحمد الشيبة، قد أشار في تصريحات صحافية إلى أن «الشعب الإماراتي مع فلسطين والقضية الفلسطينية، ولكنّه لا يستطيع التعبير عن رأيه لأنه معرّض للتنكيل من قبل الحكومة». وقد بدا ما سبق واضحاً عبر منع أمن ملعب استاد هزاع بن زايد في مدينة العين الإماراتية، اللاعبين والجماهير من رفع علم فلسطين أثناء المباراة بين فريق مصري وآخر من زامبيا. ولدعم موقف الأمن الإماراتي في تلك الحادثة، كتبت بعض المواقع أنّ فعل رجال الأمن جاء تنفيذاً لقوانين الدولة التي تنصّ على عدم رفع أيّ أعلام لدول خارجية في الملاعب الإماراتية.
على الحدود مع فلسطين وحول سفارة الاحتلال في عمان، عبّر الأردنيون عن مشاعر الرفض لما يُرتكب من جرائم في غزّة، وكانت قد انطلقت وقفات احتجاجية في الأردن وصلت ذروتها بعد مجزرة مستشفى المعمداني. وقد قوبلت تلك التحرّكات الشعبية بقسوةِ الأجهزة الأمنية، بخاصة في محيط السفارة الإسرائيلية. في هذا السياق، كشف المحامي بسام فريحات في لجنة الحريّات في نقابة المحامين الأردنيّين، في تصريحات صحفية، عن تعاملهم مع ألف شخص اعتُقلوا منذ بداية الاحتجاجات. في المقابل، نقلت وكالة الأنباء الأردنية عن الناطق الرسمي باسم الحكومة، مهند المبيضين، أنّ التوقيفات التي جرت لا علاقة لها بالحالة التضامنية الشعبية، مشدداً على موقف الحكومة «الداعم لحرية التعبير المُصانة بحسب القانون».
أما في البحرين، فقد اعتقلت الجهات الأمنية الطفل محمد أحمد علوي البالغ من العمر 14 عاماً، وبحسب هيئة شؤون الأسرى في البحرين، فإن الطفل محمد اعتُقل بعد التحقيق معه على خلفية التظاهرات التي خرجت تضامناً مع الشعب الفلسطيني، والهتافات التي تعلن رفض التطبيع مع الاحتلال. وقرّرت النيابة العامة حبس علوي سبعة أيام على ذمة التحقيق.
تشير البيانات إلى أنّ اتّجاهات الرأي العام في العالم العربي تنحاز إلى التعامل مع القضية الفلسطينية من منطلق أنها قضية عربية، وليست تخصّ الشعب الفلسطيني وحده، إذ إن 80% من المواطنين في السعودية والأردن و 74 % في مصر يعبّرون عن هذا الرأي، بينما أفاد 15 % من مجمل المواطنين العرب أنّ القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيّين وحدهم. وظهرت في السنوات الأخيرة، على الضفة الأخرى من تأييد الشعوب العربية للقضية الفلسطينية، حالات عدة لمواطنين عرب أظهروا وقوفهم على نحو كامل مع الاحتلال الإسرائيلي، كما عمدوا إلى التحريض مباشرةً على الفلسطينيين وكل من يؤيّد القضية الفلسطينية. رغم ذلك، لم نشهد تعاملاً فعلياً على صعيد السلطات العربية لمواجهة تلك الحملات التي تواجه نسبةً كبيرةً من مواطني كل دولة عربية لا يزالون يؤيّدون القضية الفلسطينية، ومن الممكن أن تؤدّي إلى إثارة الفتن في تلك المجتمعات، وعندئذٍ من الممكن القول إن ذلك يؤثّر على «الأمن القومي» للدول العربية.