هو واحد آخر، من أبناء تلك العائلات التي دفعها إهمال الدولة للنزوح إلى ضواحي بيروت، ثم إلى أحيائها الشعبية. والد يعمل في أبسط المهن، وشباب وبنات يبحثون عن رزقهم إلى جانبه. لم يكن التعليم خياراً طوعياً في أحلام الأهل، لكنه كان صعب التحقيق في بلاد يحكمها من يحتكر السلطة والثروة والعلم أيضاً. لكنّها بيروت ما بعد نكسة 1967، حين قام جيل بكامله من تحت ركام الهزيمة، ملتحقاً بركب أفكار وقيادات وأحزاب أرادت الخروج من دائرة القهر والفقر والظلم.عندما اندلعت الحرب الأهلية، كان محمد واحداً من جيل قذف بنفسه في قلب المعركة. رافق مقاتلين من الحزب الشيوعي الذي سرعان ما انتسب إليه، مناضلاً ومقاتلاً، وقريباً من جيل «أنصاف المتعلّمين»، أولئك الذين أتاح لهم الحزب فرصة اكتساب المعرفة إلى جانب خبرات الحياة. كما فتح لهم الباب أمام فرص إثبات الذات لمن وجد إلى ذلك سبيلاً.
التحوّل الكبير في تجربة «أبو خالد» كان مع الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982. كان واحداً من عشرات الشباب الذين انخرطوا في العمل المقاوم، بشقَّيْه العسكري والأمني والسياسي أيضاً. وكان لمحمد ما يميّزه عن كثيرين من رفاقه. الشخصية الحادّة لم تمنعه من مصادقة عدد لا يُحصى من الناس. ونقده اللاذع لم يمنعه من مرافقة كثيرين ممن تنقّلت بهم الحياة في أكثر من مكان. ورقيّه الشخصي، منحه فرصة ذهبية برفقة نهاد، الصبية الجميلة، ابنة البيت العريق، التي عاندت لتدخل معه في تجربة استمرت نحو أربعة عقود. وكان الثنائي الذي يدخل اللطف معه حيث يحلّ.
غضبه الكبير، وجرحه الشخصي من تجارب كثيرة، لم يجعلا محمد يهرب من تحمّل المسؤولية. وكما فعل في كل المهام التي أوكلت إليه في عمله الحزبي، لم يرفض وظيفة تحفظ له كرامته، وتمنحه خبرة إضافية، وتجعله قادراً على الحضور في الأوقات الصعبة. الرجل الذي سكنه منذ كان طفلاً، جعله أباً في عمر مبكر. لكنه جعله صديقاً لجيلين وأكثر ممن مرّوا من حوله، في الحزب والحي وكل أماكن العمل التي عمل فيها. وكل من عمل معه أو إلى جانبه، وجد فيه الجدار الذي يمكن الاستناد إليه كل الوقت. وكانت لمحمد موهبة خارقة، تسمح له بفتح الأبواب أمام الجميع، ليس للاستماع إلى حكاياتهم الشخصية أو المهنية فقط، بل لاختراع الطرق التي تسهّل مساعدة من هو محتاج في أي أمر.
عندما أطلقنا «الأخبار» في نسختها الجديدة، كان محمد ضمن مجموعة صغيرة عملت على تحضير كل ما هو مطلوب. ووجد لنفسه سريعاً، وظيفة حساسة في متابعة المنتج الذي يعمل عليه الفريق طوال النهار والليل. وظل لـ 15 سنة يهتمّ بكل التفاصيل الخاصة بالمنتج قبل وأثناء وبعد وصوله إلى القارئ. ولم تكن تنقصه الحنكة والحيلة في بناء العلاقات حتى مع أصعب الناس. لكنه، عندما يفقد أمله في فكرة أو شخص أو مكان، يتركه بصمت، ولا يعود إليه مهما كلّفه الأمر.
أبو خالد الذي لم يهتم لثياب أو سيارة أو منزل أو طعام أو زواج أو تعليم هذا أو ذاك من الرفاق والزملاء، هو نفسه الذي كان يدافع عن حقه في بعض الهدوء بعيداً عن ضجيج المدينة. ولم يكن الإحباط ينال منه يوماً، فظلّ يروح ويجيء ويسافر ويزور ويتصل... لكنه، كان مهملاً مع نفسه، وكان كل شيء قابلاً للمعالجة وسريعاً، لكنه كان يهرب من فكرة أن قلبه يحتاج إلى هدوء أكثر، وإلى عناية كبرى، وإلى مشورة دائمة والتزام بما يطلبه الطبيب.
في اللحظة التي توقّف فيها قلب محمد، توقّفت أشياء كثيرة في يوميّاتنا، تلك الأشياء التي لا بديل لها.

(أسرة الأخبار )