«بوجود الإحتلال الإيراني وميليشيا حزب الله لا أمل في عودة الاقتصاد اللبناني». كانت هذه الخلاصة التي وصل اليها الخبير الاقتصادي توفيق كسبار في نهاية مداخلة له في ندوة نظمتها الجامعة الأميركية في بيروت في 18 الجاري، ضمن برنامج «لبنان في قرنه الثاني: رؤية مستقبلية».تخلل المداخلة كثير من المغالطات التحليلية المقصودة، إذ تغاضى الخبير عن نقاط أساسية شكلت عوامل مهمة في الأزمة المالية. وكما جرت العادة، الكذب يحتاج إلى بعض الحقيقة لكي يصدق، واستخدام الأرقام المتفق عليها في سرديات توظّف سياسياً، ويصادف أيضا، أنها دائماً ما تصل إلى نتيجة واحدة: كل الأزمات مصدرها حزب الله!
يقول الخبير كسبار أنه «ليس هناك تفسير رسمي أو علمي للأزمة، لكن السردية الوحيدة المتداولة والتي هي غير صحيحة هي أن: أموال الناس عند المصارف وأموال المصارف عند مصرف لبنان وأموال مصرف لبنان عند الدولة، والدولة سيئة». وأضاف أن «هناك انهيارين وقعا في لبنان، الأول مصرفي والثاني في سعر الصرف». وفي مقارنة بين أزمة سعر الصرف في ثمانينيات القرن الماضي والأزمة الحالية، أشار كاسبار إلى أنه «بين 1975 و1990 بلغت نسبة السيولة لدى المصارف ما نسبته 99% من حجم الودائع لديها، ولذلك لم يؤثر الانهيار في سعر الصرف على المصارف».
بالنسبة لكسبار، بدأت المشكلة بعد عام 2011 عندما برز لسنتين متتالتين عجز في ميزان المدفوعات، ما دفع مصرف لبنان إلى الاستدانة من المصارف بمعدلات فائدة مرتفعة جداً، وجعل قيمة إستثمارات المصارف لدى مصرف لبنان بين 95 و100 مليار دولار. وبعدما استفاض في الشرح، وجد انه يمكن توزيع المسؤوليات على المعنيين بنسب جعلت الدولة (ومن ضمنها مصرف لبنان) تتحمل 40 في المئة من الازمة، وحمل المصارف نسبة موازية بـ 40 بالمئة ايضاً، لكنه حمّل المودع نفسه 20 في المئة من المسؤولية عن الانهيار. وبعد كل ذلك، عاد كسبار ليطلق خلاصته الثابتة في عقله بالقول أن لا نهوضا اقتصاديا في لبنان في ظل «الإحتلال الإيراني» و«ميليشيا حزب الله».
صحيح ان تحليلات أسباب الأزمة المالية - النقدية اللبنانية تبدو وكأنها جزء من الماضي. ورغم أن أصولها واضحة ولا حاجة للنقاش فيها، الا إن هناك من لا يزال يُصرّ على توجيه الرأي العام لرمي المسؤولية على جهة لا علاقة لها بالأزمة أصلاً. علماً ان الطبيعي هو أن يبدأ النقاش من أصل هيكلة الاقتصاد السياسي اللبناني الذي اعتمد، منذ تأسيس الكيان، على التدفّقات الخارجية بالعملات الصعبة. وهذا العامل، بطبيعة الحال، يجعل الاقتصاد عرضة لأي خضّة تضرّ بهذه التدفقات.
أضف الى ذلك، أنه منذ منتصف التسعينيات، قرر مصرف لبنان، بقيادة حاكمه السابق رياض سلامة، تثبيت سعر صرف العملة الوطنية. وهو قرار ثبّتته السلطة السياسية بقيادة الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي جاء الى موقعه نتيجة تسوية سياسية كبرى بين الولايات المتحدة وفرنسا والغرب من جهة، والسعودية ومصر ودول الخليج من جهة ثانية، وسوريا من جهة ثالثة.
يحمّل كسبار «الاحتلال الإيراني» وحزب الله مسؤولية «منع الانقاذ» ويقول ان الحل بالعودة إلى الغرب


قرار حكومات الحريري ومن خلفه كان يستند الى رؤية خاصة بنمط الانتاج في الاقتصاد اللبناني. وهو نمط يربط الانفاق العام بالتسويات القائمة بين اركان من يحكم البلاد. وهؤلاء في غالبيتهم ممثلون عن جماعات اختارها اللبنانيون. وحتى بعد عام 2005، عندما سقطت التسوية العربية - الاقليمية - الدولية، واجبرت سوريا على الخروج من لبنان، فان ما تغير هو بعض الادوات في الحكم، لكن سلامة بقي حارسا للفكرة الاصلية التي ابقت على سياسة تثبيت سعر الصرف، وعلى الانفاق المرتبط بالحاكمين بعد ان انضم اليهم من كان عرضة للاقصاء سابقا.
في بلد كلبنان، حيث مصدر العملات الصعبة فيه هو التدفقات النقدية، ويصل الجزء الاكبر منها على شكل تحويلات عمّال وتحويلات مصرفية جارية، يكون طبيعياً ان يلجأ الحاكم، السياسي والمصرفي، الى هذه التدفقات لتثبيت سعر الصرف. والمشكلة هنا هي أن جزءاً كبيراً من التدفقات استُخدم في عملية تثبيت سعر الصرف. ولم يتم اخراج هذه المشكلة الى الضوء عندما كانت التدفقات مستمرة، لأن هذه التدفقات كانت تعوّض الدولارات التي صُرفت في السوق لتثبيت سعر الصرف، وبهذا تبقى السيولة بالعملات الصعبة موجودة لدى المصارف اللبنانية.
بعد عام 2011، تراجعت التدفقات، وظهر العجز الكبير في الحساب الجاري الذي يقيس الدولارات التي تدخل إلى لبنان مقابل الدولارات التي تخرج منه. هنا بدأت المشكلة تتوضّح، وتراجعت السيولة الموجودة بين أيدي مصرف لبنان والمصارف. وبدأ حاكم مصرف لبنان لعبة الهندسات المالية التي أصبحت معروفة اليوم، وساهم في مضاعفة الخسائر. عند هذا الحد، ظهرت المشكلة الى السطح مباشرة!
ما لم يذكره كسبار كان لبّ الأزمة وأصلها، وهو بدايةً نموذج الاقتصاد السياسي الذي اتبعه لبنان قبل الحرب، وهو ما أصبح نموذجاً متطرفاً أكثر بعد الحرب. وبما أنه لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة والمجتمع، لا بد من استحضار العوامل السياسية التي ساهمت في استمرار هذا النموذج قبل عام 2011. ففي فترة التسعينيات. كان لبنان وفقا لغالبية كبيرة، خاضعا للوصاية السورية. لكن، الحرب بين المقاومة وقوات الاحتلال الاسرائيلية كانت قائمة بصورة يوميا، وتوسعت دائرتها مرارا الى خارج الشريط الحدودي المحتل. وكانت مؤسسات الدولة، محكومة من قبل تحالف «الميليشيات ورجال الاعمال الجدد»، ومع ذلك، لم تتوقف التدفقات بالعملات الصعبة (الاتية حكما من الخارج لا من مطابع مصرف لبنان)، وظلت هذه الاموال تغذي النموذج اللبناني من الاقتصاد.
الفكرة هنا، هي أن الربط بين الاقتصاد والسياسة أساسي، فهذه التدفقات كانت بدافع واقع سياسي ترجمة لتسوية سياسية بين سوريا والسعودية وأميركا وفرنسا اساسا، ينفذها تحالف سياسي طائفي شاركت فيه كل القوى السياسية الداخلية (وللصدفة، لم يكن حزب الله ضمنها، ليس ممانعة منه فقط، بل رفضا لحضوره من قبل الاخرين). وعندما تفككت هذه التسوية، عام 2005، جرت محاولة انقلاب سياسي كبير بقيادة الولايات المتحدة والسعودية وفرنسا، الى ان وصلنا عام 2011 إلى الانقلاب الاقتصادي، الذي تطور مع الوقت على شكل حصار وتضييق ترجم بتوقف التدفقات إلى لبنان. علما ان كسبار، تجاوز «صدفة» ان عام 2011، كان عام التدمير في دول عربية كبيرة، من بينها سوريا، غير آبه لتأثيرات الازمة السورية على الاقتصاد اللبناني.
الخلاصة المنطقية الوحيدة، التي يجب ان يلتفت اليها الخبير كسبار، هي أن «ممانعة الميليشيا» لالتزام الطلبات السياسية للراعي الغربي، جعلت الاخير يقود اكبر عملية حد للتدفقات المالية الى لبنان. وبالتالي، فان ما لم يقله كسبار صراحة، انه عندما يحمل «الاحتلال الايراني» وحزب الله المسؤولية عن «منع الانقاذ»، يقول لنا ان الحل يكون من خلال العودة إلى الحضن الغربي... ورغم انه يفترض ان يقيس الامور من زاوية مهنية وتقنية ايضا، من دون ان يغفل الجانب السياسي، فانه يرفض طبعاً ان يناقش البحث عن بدائل للنهوض بالاقتصاد، مع ما يتطلبه ذلك من انفتاح على عالم موجود في اماكن اخرى من الكون غير اميركا، وهو عالم لا يرى المقاومة عائقا امام النمو الاقتصادي!