يُعدّ هذا التعديل الثاني بعد ما قام به مصرف لبنان في مطلع شباط 2023. يومها بدأ إعداد الميزانية وفق سعر صرف جديد يبلغ 15 ألف ليرة مقابل الدولار، ما أدّى إلى تضخّم المطلوبات (ما هو مطلوب منه للغير)، وتحديداً ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، بقيمة هائلة. فقد كانت القيمة الإجمالية لهذه الودائع (القسم الأكبر منها بالدولار) تبلغ 160849 مليار ليرة أو نحو 106 مليارات دولار بسعر صرف 1507.5 ليرات، ثم أصبحت بعد إعادة احتسابها 1351394 مليار ليرة أو ما يعادل 90 مليار دولار، أي أنها ازدادت بأكثر من ثمانية أضعاف بالليرة، وتراجعت قيمتها بالدولار. أيضاً أعيد احتساب كل ما هو بالدولار في جانب الأصول، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لتغطية المطلوبات المتضخمة والخسائر المترتبة عليه بسببها. وبقرارات في المجلس المركزي، سُجّل مبلغ 36.5 ملياراً (بسعر صرف 15 ألف ليرة) في بند فروقات التسوية الذي يضم «صندوق تثبيت القطع» بالإضافة إلى فروقات العملات الأجنبية (أي ما كان سعر العملة الأجنبية وبأي سعر باعها). كذلك، تضخّمت قيمة بند الذهب من 26487 مليار ليرة إلى 253893 مليار ليرة، وبند الموجودات بالعملة الأجنبية من 22589 مليار ليرة إلى 222224 مليار ليرة. كما أن بند القروض للقطاع العام تضخّم من صفر إلى 247575 مليار ليرة (أي 16.5 مليار دولار).
كل هذه الخطوات المحاسبية هدفت إلى القول بأن مصرف لبنان ليس مسؤولاً عن الخسائر، بل هي تقع على عاتق الدولة، وأن تسجيلها محاسبياً بهذا الشكل هو عمل روتيني يتسم بصفة الشفافية والالتزام بمعايير المحاسبة الدولية. وهذا الأمر استُكمل أمس في البيان الصادر عنه بعد توحيد بندي «الأصول الأخرى» و»موجودات ناتجة عن عمليات مقايضة على أدوات مالية» ونقل المبالغ فيهما إلى بند مستحدث سمّاه المصرف «عمليات السوق المفتوحة المؤجّلة»، علماً أن مجموع هذين البندين كما احتسبتهما شركة لازار في عام 2020، يعبّر عن قيمة خسائر رأس المال في مصرف لبنان.
خطوات محاسبية للقول بأن مصرف لبنان ليس مسؤولاً عن الخسائر وأن تسجيلها على الخزينة أمر روتيني
هنا تكمن الإشكالية. فبحسب التوضيحات التي جاءت مع البيان الصادر أمس، تبيّن أن قيمة البندين تراجعت بالدولار بعد احتسابها على سعر صرف جديد لأن قيمتها بالليرة. فهل هذا يعني أن قيمة الخسائر تراجعت؟
عملياً، بمجمل الخطوات المحاسبية الجديدة في شباط 2023 وفي نهاية كانون الأول 2023 حصلت إعادة توزيع لخسائر مصرف لبنان، من أبرزها أنه بات لدى مصرف لبنان دين جديد على الدولة اللبنانية بقيمة 16.5 مليار دولار، وذلك رغم أن مصرف لبنان لا يملك سنداً قانونياً لإقراض الدولة بالعملة الأجنبية. الشفافية التي يحاول مصرف لبنان الالتزام بها، تقتضي منه إبراز المستند القانوني لهذا الدين. فالدولة طلبت منه أن يدفع بالدولار من حسابها بالليرة لشراء فيول لمصلحة كهرباء لبنان بوصفه مصرف القطاع العام. لكنّ مصرف لبنان، سجّل هذه الدولارات ديناً على الدولة واعتبر أن المبلغ الموازي بالليرة هو ضمانة لتحصيل المبلغ. لذا، عندما تضخّمت قيمة الدولارات وفق سعر الصرف الجديد، انتقل الحساب من صفر إلى 16.5 مليار دولار.
ادّعاءات مصرف لبنان بأنه ملتزم بالشفافية والمعايير المحاسبية الدولية تأتي في إطار التمييز بين فترة حكم رياض سلامة وما تلاها، إلا أن الأمر ما زال على حاله. فمصرف لبنان يواصل التعامل مع الخسائر بوصفها أمراً مؤجّلاً، ويقول أيضاً إن خسائره يجب أن تغطّيها الخزينة. هذه الذريعة تنقل أزمة الودائع من موقع إلى آخر، أي من مصرف لبنان إلى وزارة المال والحكومة. هنا تدور المفاوضات الفعلية للثمن الذي يجب أن يدفعه عموم اللبنانيين عن المصارف التي وظّفت أموال المودعين لدى مصرف لبنان من دون دراسة مخاطر هذه التوظيفات.